شخصيات ولكن بلا شخصية

TT

الكويتيون يبيعون أصواتهم، لمن يدفع أكثر، أثناء الانتخابات، واللبنانيون أيضاً. وبصرف النظر عن فارق السعر في الحالتين، يتساوى بائعو الأصوات في قصر النظر وضعف البصيرة، وجهلهم بحقيقة أن الصوت لا يقدّر بالدنانير أو الليرات. وربما كان هؤلاء المتاجرون بالأصوات، هم انفسهم الذين يصفقون لمطربي الحناجر المنكرة ويشترون اسطواناتهم وأشرطتهم بعد أن اختلطت عليهم الإيقاعات، وضاع التمييز بين حسن الأصوات وقبيحها.

وليس غريباً أن تجد العربي ناخباً كان أم صحافيا أم مثقفاً أم وزيراً، مبحوح الصوت، أو فاقده، فالبيع والشراء على أشده، ونظرية اقتصاد السوق، وليبرالية التبادل التجاري سارية على مختلف «السلع»، وتطبق بأقبح وأنذل الصور. فثمة من يستفز كل عبقريته التعبيرية لمديح مؤسسة رسمية يحتقرها، مقابل تذكرة طائرة وإقامة بضعة أيام في فندق. ومن الصحافيين من يجير ضميره، ويستنفد حبره، سنوات طوالاً، للدفاع عن مسؤول، ملتبس الدور، لقاء رشوات صغيرة أين منها اسمه الكبير. فالبيئة العربية موبوءة في عمومها، ورائحة العفن باتت نفاذة، تلف أصحاب النفوذ والحظوظ والأقل منهم حظاً. فالفقير يتطلع إلى أعلى والغني يطمع بثروة يتسلقها كجبل، والجميع ذاهب إلى تلك القمة الموهومة التي تنتحر المجتمعات المختلة على شفير هاويتها. وبإمكاننا أن ننظّر في الإصلاح، ونصدر البيانات والصرخات الحماسية، كما فعل المثقفون، الذين اجتمعوا مؤخراً في القاهرة، لكن دود الخل منه وفيه. والخلل يهز التركيبة الهرمية من رأسها حتى أسفل قاعدتها.

يشرح لنا علم النفس أن الشخصية الإنسانية تقوم على أربع خصوصيات أساسية وهي: الفردية، الاستقلالية، التناغم الداخلي، والبواعث الخاصة التي تجعل رد فعل كل إنسان مختلفاً عن الآخر أمام الفعل الواحد. وبقليل من التأمل لا بد أن تتساءل عن حقيقة وجود شخصية عربية تجتمع لها هذه الدعائم وتبلور كيانها وتردعها عن الانزلاق إلى هذا المتشابه الفاسد والقميء. فمع الرشاوى والوساطات والعشائريات واليأس، لا تستطيع أن تتحدث سوى عن موت الشخصية واضمحلالها. وكن على ثقة بأن عرب هذا الزمان مشدوهون بمرض «الشخصيات» ذات الكرش المدلوق والسيجار المشنوق والوجه المتجهم، أما تنمية «الشخصية» الإنسانية السوية، الغنية، الديناميكية، الخلاّقة، فهذه ليست موضع انشغال الكثيرين. وكي تتأكد بإمكانك أن تتسلى بتجربة صغيرة وتطلب من أي محرك بحث انترنتي أن يمدك بمعلومات حول «الشخصية» باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وستقع على مواقع ومقالات وأبحاث همّها مساعدتك على فهم اختلافك عن الآخر، وتعينك على إدراك معنى تطورات الشخصية البشرية واضطراباتها وأمراضها وإمكاناتها وسبل تحفيزها. أما لو قمت بالبحث نفسه باللغة العربية فستذهل من طبيعة المادة التي تحصل عليها، فهي في معظمها عن المواقع الشخصية للأفراد أو حول الحسابات المالية أو الأحوال الشخصية بمعناها القانوني.

وكلمة «شخص» في اللاتينية تعيدنا إلى «التشخيص» والتمثيل، والأقنعة التي كان يلبسها ممثلو اليونان لأداء أدوارهم، وكانوا يظنون يومها أن الشخصيات لا تتجاوز تنويعاتها 76، لكن البحث أثبت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي ان المخلوق البشري كون يعج بالأسرار وجماليات التمايز اللامتناهية. وقدّم فنانو العرب «المشخصاتي» على المسرح الذي يجسد الشخصية الموكلة إليه بكل أبعادها وخصوصيتها ونزقها الفردي الذي يجعلها بنياناً إنسانياً له بصمته التي لا تتكرر. لكن المسرح العربي بقي هامشاً مهملاً ولم يتغلغل في النسيج التكويني للفرد أو طقساً في حياته اليومية. وازدادت الشخصية ذبولاً لأنها لم تفهم أبعاد المشخصاتي ومراميه، لا بل رمي بالجنون والهذيان وأحيطت مهنته بالازدراء. وقد كتب اينشتاين يوماً: «ان الشخصية الخلاقة يجب ان تحكم على الأشياء بمعزل عن تأثير أي أحد، لأن التطور الأخلاقي للمجتمع متوقف كلية على استقلاليتها». وعلى نفس المنوال نسج مارسيل بروست حين اعتبر ان «بناء الشخصية الإنسانية هو الهدف الاسمى للحضارة». أما حين يقول ناخب لبناني بكل اعتزاز انه يصّوت للمرشح فلان، لأنه يعتقده كريم النفس، بعد ان منحه مائة دولار لكنه على استعداد للتصويت لآخر لو منحه مائتين، فالكلام على الشخصية والاستقلالية والفردية الخلاقة هو أشبه بالسريالي منه إلى الواقعي في حفلة تنكرية وزع فيها قناع واحد على كل الراقصين.

ومهازل الانتخابات العربية تؤكد ان الداء لا يعالج بعصا سحرية، ولا ببيانات أو مقالات صحافية ومن خلال مؤتمرات تنديدية، وإنما في الحضانات والمدارس الابتدائية حيث يبدأ القمع والتنكيل بالعقول الغضة وتقتل الطفولة باسم الجدية. وثمة مقولة رائعة لجراح فرنسي يدعى رنيه لريش مفادها ان قيمة الأستاذ ومستوى نجاحه يقاس بازدهار شخصيات طلابه، لا بالأرقام التي تسجل على أوراق علاماتهم.

وإذا كنت من الغيورين على الهوية الوطنية والانتماء العربي، فليس أخطر عليهما من محو الشخصيات والسطو على الأصوات وتشكيل الآراء في قوالب، ثم المتاجرة بها في سوق السياسة. أما وأن كل ذلك يحدث في السر والعلن فقد استعاضت الشخصية العربية عن مضمونها المفترض بمظهر محترم واستوردت أغلفة الشخصيات من العالم الأول، ونامت داخلها. فهاك شابات بعيون خضر وأنوف خلاسية وشعر أشقر أملس وملابس تمردية. وشبان ببنطلونات من الضواحي النيويوركية يكشفون عن سواعدهم، وقد وقف الشعر في رؤوسهم ويرقصون على أنغام الـ«هب هوب»، لكنهم لا يعرفون، أبداً، لماذا يفعلون ذلك.. وإن سألتهم سخروا منك وظنوك من العصور الحجرية، لأن الشخصية ممسوخة كانت أم نزّاعة للتوقد تتشكل في اللاوعي، وتطلع من قمقمه، وسراديبه الخفية. أما وان الحال على ما هي عليه، فالشخصية العربية المثالية اليوم هي تلك التي تشاهدها منتفخة، تجلس ببلادة في ردهات الفنادق الفخمة والمطاعم الأنيقة والتي لا يمكن ان تعرف أو تتكهن بكم الفظاظة والجلافة الذي أوصلها إلى هناك.

هذا كله من العبر التي تكتب بالإبر على مآقي البصر، كما تقول تلك اللازمة الجميلة التي تتكرر في كتاب ألف ليلة وليلة.

[email protected]