شروط نجاح الهدنة المؤقتة

TT

احسنت منظمات المقاومة الفلسطينية صنعا عندما التزمت بهدنة مؤقتة تعطي خلالها لرئيس الوزراء الفلسطيني وللجنة الرباعية فرصة توفير حظوظ النجاح لخريطة الطريق. واحسن محمود عباس صنعا حينما طبق من جانبه ما وضعته الخريطة على الجانب الفلسطيني من التزامات لخلق ما اصبح يسمى بجو التهدئة لتنطلق المفاوضات في جو خال من التوتر.

ان كل ذلك يعني ان فلسطين ـ حكومة وفصائل مقاومة ـ قد انتهجت خطا حضاريا يعلو فيه صوت الحكمة على قعقعة السلاح، وتُحترم فيه الارواح وتصان فيه الدماء، ويوضع فيه حد للمأساة الدامية التي سقطت فيها الضحايا بالمئات من طرفي النزاع الفلسطيني الاسرائيلي.

هذا العمل الحضاري هو في نفس الوقت قُرْبة دينية جاءت بها رسالة الرحمة الاسلامية في الآية القرآنية المحدّدة لشروط الحرب والسلام القائلة: «وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله». وما كان لمنظمات المقاومة الاسلامية ان تتجاهل هذا النداء الالهي الذي امتثلت له تلقائيا وبرهنت به على انها لا علاقة لها بالارهاب الذي تُوصَم به ظلما ومغالطة، وانها لم تحمل السلاح الا للدفاع عن النفس وتحرير ارضها من الاحتلال. كما ان هذا العمل يجاري ما تواضعت عليه البشرية في صفائها الفطري من اعتبار الحرب شرا لا يصبح محتوما الا عند الاقتضاء والضرورة لتبقى الحرب استثناء بينما السلام هو القاعدة الدائمة.

بيد ان ارادة السلام تقتضي وجود طرفين. فهل نضجت اسرائيل للدخول في السلام؟ اعتقد جوابا على هذا السؤال ان شارون يمضي على طريق السلام وئيد الخطى وينخرط فيه بصعوبة، لكنه يدرك في قرارة نفسه ان لا مخرج له من المأزق الذي وصل اليه سوى اعتماد خيار السلام بعد ان فشل في وعده شعبه بالامن في اجل مائة يوم اصبح تعدادها اليوم يتجاوز السنتين بدون جدوى. ان شارون الجنرال الحاقد الذي يجتر حقده على شعب فلسطين بعامة وعلى الرئيس ياسر عرفات بخاصة منذ صبرا وشاتيلا استنفد نفسه. وهو الآن يجاهدها ليتقمص روح السياسي المرن الذي يعد بتقديم «تنازلات مؤلمة». والسلام بالنسبة اليه كله مؤلم، لكنه اصبح عنده شرا لا غنى عنه ولا محيص منه.

يقول المثل الفرنسي «ان الشهية تتفتح بالبدء في الاكل». وقد جلس شارون الى مائدة السلام التي تعني هنا مائدة المفاوضات عبر اللقاءات الدورية التي تجري بينه مباشرة وبين الوفد الفلسطيني الحكومي بقيادة عباس محمود (ابو مازن). ولي الثقة في قدرة مهندس اوسلو على زرع الثقة في نفس شارون لتحويله الى مخاطب مرن حضاري يأخذ ويعطي. والأمارات الاولى التي صدرت عن شارون بالانسحاب من جزء من قطاع غزة وعن مدينة بيت لحم وان ظلت اسوار المدينة تحت حصاره، وفتحه ابواب السجون في وجه عدد محدود من السجناء الفلسطينيين الذين اطلق سراحهم بعد قضائهم بالسجن حقبة طويلة، كلها تدل على ان شهية تناول طعام السلام اخذت تنفتح عنده رويدا رويدا. وقد اعتبر وزير الامن محمد دحلان ان هذه الخطوة منقوصة. واول الغيث قطر ثم ينهمر.

بطبيعة الحال المسافة المراد قطعها على مسار السلام متباعدة وينبغي تسريع وتيرة السير لاحترام استحقاق اعلان الدولة الفلسطينية المستقلة سنة 2005. وهنا تكمن صِدْقية خريطة الطريق. فاذا لم يُحترم هذا الاستحقاق تصبح خطة السلام عديمة المصداقية، وحتى لاغية، وتصبح العودة الى الاوضاع الجهنمية السابقة بل الى ما اشد منها حتمية لا مرد لها.

قد يشوش على مسيرة خريطة السلام حادث او حتى احداث عنف محدودة المدى يُنسب الى احد طرفي النزاع، لكنه لا ينبغي تضخيم آثار الحادث واعطاؤه اكثر من حجمه، وبالأحرى لا ينبغي تجريم الطرف الذي يُنسب اليه الحادث وقذفه بتهمة خرق الهدنة لان هذا سيعيد الصراع الى ما كان عليه قبل الهدنة. علما بان الحادث ان جاء من الجانب الفلسطيني يمكن تبريره بانه حادث فردي، وان من الصعب على فصائل المقاومة السيطرة الكاملة عليه، لان تنظيماتها لا تصل الى حد السيطرة على جميع التصرفات الفردية لبعض المتطرفين، لكنه لا يُفهم ولا يوجد له مسوِّغ اذا صدر عن الجانب الاسرائيلي، اي من دولة منظمة لا يتحرك فيها جيشها الواحد الا بأمر من اعلى، وذلك من منطلق مبدأ خضوع الجيش النظامي للانتظام العسكري الذي يعاقب بصرامة من تصدر عنه مخالفات انفرادية. وهو ما لا تملك مثله فصائل المقاومة الفلسطينية التي لا تعدو ان تكون حركات شعبية.

اتخذت اسرائيل حيال الهدنة موقفا تاكتيكيا عندما قالت انها غير معنية بشأنها، وقالت في تبرير ذلك «ان فصائل المقاومة هي جمعيات ارهابية يجب تفكيكها ومصادرة سلاحها». لكن ما لم تعلن عنه اسرائيل هو ارتياحها في قرارة نفسها لهذه الهدنة التي توفر الامن لمواطنيها ولجيشها. وهو ما عجزت عن تحقيقه بالاغتيال والاجتياح والتخريب. لكن ينبغي الا يكون ذلك عند الفلسطينيين مدعاة للتشكيك في الهدنة لان اسرائيل تستفيد منها، وذلك لسبب وحيد هو ان التعامل السياسي شبيه بالتعامل التجاري الذي تُبرم فيه الصفقات وهي دائما اخذ وعطاء متبادلان. واذا لم يكن لاحد طرفيها فائدة يجنيها منها فانه لا يُبرمها ولا يدفع الثمن في مقابل المُثْمَن.

ان اعلان قبول الهدنة (التي طرحها ابو مازن) من لدن فصائل المقاومة جاء من منطلق سيادة قرارها. ولا يعني مطلقا انه استسلام للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية. ومن مصلحة اسرائيل ان لا تتعامل مع الهدنة بفهم خاطئ. كما انه لا علاقة بين تعليق اطلاق النار والمحاولة الاسرائيلية الفاشلة لاغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، لان المقاومة كان في مقدورها ان ترده بما عُهد فيها من قدرة على رد العدوان بمثله او اكثر، ولكنها لم تفعل لان اسرائيل جنحت الى السلام بقبولها الانخراط في خطة السلام وشروعها في تنفيذ بعض ما تفرضه الخطة عليها. وما يزال عدد من قيادات المقاومة يكرر القول ان المقاومة لم تغير مبادئها واقتناعاتها، ولا شيئا من استراتيجيتها، وانما لم تُرد ان تعوق التجربة الجديدة، وهي تنتظر حصيلتها للحكم عليها سلبا او ايجابا وترتيب مواقفها منها على ضوء حكمها لها او عليها.

واخيرا فقد احبط الرئيس محمود عباس ومحاوروه المقاومون الفلسطينيون طمع اسرائيل في وقوفها متفرجة على معركة التناحر الذاتي ونشوب حرب اهلية بين شرائح شعب فلسطين. وجاء قرار قبول الهدنة بداية لوحدة القرار الفلسطيني بين الحكومة الفلسطينية وفصائل المقاومة. ونرجو ان يقطع الطرفان خطوات كبرى على طريق وحدة المنهج السياسي في المراحل التي ستقطعها خريطة الطريق الى سنة 2005، حيث المطلوب ان يتم الاعلان لا عن الدولة الفلسطينية فحسب، ولكن عن دولة جميع الفلسطينيين.