متى تنسحب القوات الأميركية من العراق؟

TT

كانت محاربة الإرهاب هي مشكلة الولايات المتحدة الدولية الأولى بعد 11 سبتمبر، أما بعد احتلال أفغانستان والعراق، فقد أضيفت إليها مشكلة أخرى وهي إقامة حكم ديمقراطي حليف في البلدين قبل سحب قواتها منهما. وقد يكون ذلك أصعب بكثير عليها من كسب الحربين اللتين اطاحتا بحكم الطالبان وصدام حسين.

إن سحب القوات الأميركية من أفغانستان وخصوصا من العراق، لا مفر منه، لأن بقاء العراق تحت حكم عسكري أجنبي، ليس واردا، وطنيا عراقيا ولا قوميا عربيا، ولا قانونيا دوليا. ولكن المشكلة هي في توقيت هذا الانسحاب، بعد سنة؟ أو سنتين؟ أو أكثر؟ وهل قرار الانسحاب مرهون بقيام حكم عراقي وطني ديمقراطي ليبرالي حليف للولايات المتحدة، أو على الأقل، متصالح مع جيرانه ورافض للإرهاب والإرهابيين؟ أم هو مرهون بمآل الحرب العالمية والإقليمية التي تخوضها الولايات المتحدة على الإرهاب، والتي تتطلب اقتلاعا جذريا للإرهاب الإسلامأوي من كل منطقة الشرق الأوسط الممتدة من باكستان فالشرق الأدنى والجزيرة العربية والخليج إلى المغرب العربي؟

إن الولايات المتحدة مهما بلغت قوتها وقدراتها العسكرية المتطورة لا يمكنها احتلال أراضي دول مستقلة وعضوة في الأمم المتحدة غصبا عن شعبها ولسنوات عديدة. فالاستقلال شعور طبيعي، غريزي وكذلك السيادة، لا بد أن يستيقظ ويتحرك ويصطدم بالأجنبي المحتل. كما أنها لا تستطيع الانسحاب من الدول التي احتلت أراضيها قبل أن تطمئن إلى الأوضاع السياسية التي سوف تتبع انسحابها: هل يؤدي انسحابها إلى تجدد الحرب الأهلية في أفغانستان؟ أو اندلاع حرب أهلية في العراق؟ أو إلى عودة طالبان إلى كابول، والبعث العراقي إلى بغداد؟ أو إلى قيام دكتاتورية عسكرية تلغي الديمقراطية باسم الاستقرار والحفاظ على وحدة الشعب والبلاد؟ ففي الولايات المتحدة رأي عام يحاسب حكومته إذا خرجت من أفغانستان والعراق من دون أن تحقق الأهداف التي تذرعت بها للقيام بحربيها.

لا بقاء، إذن، على الرغم من إرادة الشعب ولا انسحاب قبل تحقيق هدفي ضرب الإرهاب وإقامة حكم ديمقراطي (وهما متلازمان في الخطط الأميركية) فما العمل؟

ليس سرا أن مراكز تخطيط الاستراتيجية الأميركية عاكفة، اليوم، على دراسة هذه الجدلية من أجل إيجاد مخرج يتجنب مخاطر كل من الخيارين، ويجمع بين إيجابياتهما، فالتعجيل ـ لا الاستعجال ـ في قيام حكم وطني «على قدر ما» من الديمقراطية في العراق، هي الخطوة الإيجابية المحتمة، أيا كان القرار العسكري بالانسحاب أو توقيته. ولكن ما تخشاه واشنطن هو أن تتمكن القوى السياسية والدينية الشيعية في العراق، الموالية أو المتعاطفة مع إيران، من أن تقبض «ديمقراطيا»، عن طريق الانتخابات، على الحكم باسم الأكثرية البرلمانية. فقيام حكم عراقي صديق أو حليف لإيران في الوقت الذي تخوض فيه واشنطن معركة ضد النظام الإيراني ومشاريعه النووية، لن تسهل عليها كسب حربها على الإرهاب والانسحاب عسكريا من الشرق الأوسط.

هناك قناعة أخرى تبلورت لدى الإدارة الأميركية وهي إنجاح تنفيذ خريطة الطريق بتجميد أو إنهاء النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وإكماله بحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، بما فيه المشاكل العالقة بين إسرائيل وسوريا ولبنان. صحيح أن التزام واشنطن بسلامة إسرائيل وأمنها وشروطها التعجيزية، تعيق أو تعطل قيام أي سلام عادل وشامل من شأنه تخفيف حدة الغضب العربي والإسلامي على الولايات المتحدة. ولكن هذه الأخيرة تعتقد أيضا بأن حاضر ومستقبل العلاقات الأميركية ـ العربية، بل الأميركية ـ الإسلامية، مرهونان مباشرة بموقفها من القضية الفلسطينية. كما أن هناك إجماعا دوليا على ضرورة بل حتمية تلافي اصطدام الولايات المتحدة والغرب بالعرب والمسلمين، بسبب إسرائيل والمتطرفين فيها. ومن هنا يجوز الاعتقاد أن واشنطن جادة جدا في إنجاح خريطة الطريق، وأن قرارها الاستراتيجي بالانسحاب عسكريا من الشرق الأوسط، مرهون بتراجع الإرهاب وقيام أنظمة غير معادية لها في المنطقة، وحل القضية الفلسطينية والنزاع العربي ـ الإسرائيلي والاستحقاقات ـ الشروط الثلاثة مترابطة ومتداخلة.

إن الولايات المتحدة ترى في الإرهاب الإسلامأوي وفي الأنظمة العربية والإسلامية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي والمقاومة له، أخطارا تهددها مباشرة، ولكنها في الوقت نفسه، تدرك أنها لا تستطيع احتلال العالمين العربي والإسلامي وتغيير أنظمة الحكم فيهما، إرضاء لرغبات إسرائيل والمتطرفين اليمينيين الأميركيين. ولا بد لها من العثور على طريق ثالث، بين الطريقين المسدودين الآخرين، وهذا ما تشتغل مراكز الدراسات والتقرير الأميركية عليه الآن. وهو ما لن تتأخر نتائجه في الظهور.