إطار جديد لمبادرة الغاز السعودية

TT

تتجه السعودية الى اعادة طرح مبادرة الغاز مرة اخرى بعد اجراء بعض التعديلات عليها، الامر الذي يشي باطار جديد يمكن ان تكون له انعكاساته السياسية والاقتصادية سواء على الصعيد المحلي او في جانب العلاقات الدولية.

ففي نهاية الاسبوع الاول من هذا الشهر تم الاعلان عن طرح مشروعات لتوليد الكهرباء وتحلية المياه بقيمة 4.8 مليار دولار، وذلك في خطوة عملية لفصل هذه المشروعات عن تلك المتعلقة بالغاز. كذلك تمت دعوة نحو 50 شركة عالمية ناشطة في ميدان النفط والغاز لحضور اجتماع في لندن في الاسبوع المقبل وذلك لتنويرها بابعاد مبادرة الغاز في جانب العمليات الامامية المتعلق بالاستكشاف، التنقيب والانتاج.

هاتان الخطوتان تشيران الى السرعة في استخلاص الدروس التي صاحبت مبادرة الغاز منذ انطلاقها لاول مرة منذ اكثر من اربع سنوات. واول هذه الدروس ان الشركات العاملة في ميدان الصناعة النفطية قد لا تكون الافضل وبالقطع ليست لديها الرغبة الدخول في انشطة لا تتسق مع طبيعة عملها الاساسية، ومن هنا جاء الفصل بين مشروعات توليد الكهرباء وتحلية المياه عن التنقيب عن الغاز وانتاجه. الربط بين الاثنين ادى الى تاخير في تنفيذ بعض المشروعات الخاصة بالكهرباء والمياه في السعودية، حيث تتنامى الاحتياجات لتوفير امدادات بسبب النمو السكاني والحاجة الى رفع الطاقة واحلال قدرات بعض المشروعات القديمة.

التطور الثاني الذي يلفت الانظار يتمثل في دعوة نحو 50 شركة للمشاركة في اجتماع لندن، الامر الذي يتيح لها وغيرها فرصة التقدم بعروض والتنافس للفوز. وياتي هذا على خلفية فشل المفاوضات حول المشروعات الثلاثة التي تصل قيمتها الى حوالي 25 مليار دولار، وقاد اثنين منهما شركة «اكسون/موبيل» العملاقة والثالث شركة «شل». والشركتان في واقع الامر كانتا في مركز القيادة لمجموعة شركات، امريكية في معظمها، اتفقت فيما بينها على تشكيل «كونسورتيوم» لتنفيذ المشروعات.

المفاوضات الطويلة التي استمرت بين هذه الشركات والمسؤولين السعوديين فشلت على خلفية تباينات في وجهات النظر بشان عدة قضايا من بينها حجم العائد المتوقع من هذا الاستثمار، كمية الاحتياطي الموجود من الغاز في كل مربع مخصص لاي من المشروعات الثلاثة، هذا الى جانب خلاف حول الدور الذي يتوقع لشركة «ارامكو السعودية» ان تلعبه في مراقبة تنفيذ هذه المشروعات، واخيرا عدم تحمس الشركات للدخول في مشروعات مثل توليد الكهرباء وتحلية المياه لا تقع في صلب عملها.

وفي مطلع هذا الشهر جاء الاعلان عن فشل المفاوضات الخاصة بالمشروع الذي تديره «شل» وكان سبقه الغاء صفقة المشروع الاكبر مع مجموعة «اكسون/موبيل»، وهو ما اثار علامات استفهام وتعليقات متباينة اذ اعتبر فشل هذه المفاوضات تطورا سلبيا من جانبين: الاول، تاثيره على جهود السعودية لاستقطاب رؤوس الاموال الاجنبية للاستثمار في عدة مجالات تتعلق بتجديد البنية الاساسية لديها وتنشيط الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في العملية الاقتصادية. اما الجانب الثاني فيتعلق بالاطار الثنائي للعلاقات السعودية الامريكية. فبسبب الموجود الملحوظ للشركات الامريكية في المجموعات الثلاث المتنافسة على تنفيذ هذه المشروعات، وبسبب ذيول احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) الارهابية والتوتر الذي شاب علاقات البلدين، فان البعض نظر الى الغاء هذه المشروعات من باب انها رد سعودي على بعض الخطوات الامريكية.

وللوهلة الاولى يجد هذا الراي بعض السند من تاريخ مبادرة الغاز، التي تم الاعلان عنها بداية في زيارة لولي العهد الامير عبد الله بن عبد العزيز الى واشنطون في ايلول من العام 1998، عندما التقى مديري سبع شركات نفطية امريكية في حوار تضمن في جانب منه تساؤلا حول كيفية دعم وتعضيد العلاقات الثنائية بين البلدين. وبما ان النفط لعب دورا اساسيا في بناء هذه العلاقة واستمرارها عبر اكثر من ستة عقود من الزمان، فقد رؤي العودة الى هذا المدخل مرة اخرى، لكن مع الفارق، الذي تبلور بصورة اكثر تفصيلا عند دراسة الامر لاحقا.

فالسعودية لا تحتاج الى مساعدة في مجال استخراج النفط الخام وتسويقه، ويكفي انها تحتفظ في المتوسط بطاقة انتاجية فائضة تصل الى مليوني برميل يوميا، ولها القدرة على توفير الامكانيات المالية والتقنية للقيام بتلك المهمة، لكن المجال الذي يحتاج الى دعم اجنبي هو ميدان الغاز الطبيعي خاصة الغير مصاحب، حيث تطوير الاحتياطيات الموجودة في السعودية وتقدر بنحو 244 ترليون قدم مكعب، مما يضعها في المرتبة الرابعة عالميا في مجال احتياطيات الغاز بعد روسيا، ايران وقطر. وللسعودية برنامج طموح لتطوير هذا الجانب تنشط فيه شركة «ارامكو» وتمكنت العام الماضي من تشغيل اول معمل في البلاد لمعالجة الغاز الغير مصاحب بطاقة 1.4 مليار قدم مكعب.

تطوير امكانيات الغاز الغير مصاحب امر مهم للسعودية كونه يتيح للرياض المرونة التي تحتاجها لرفع انتاجها وخفضه وفق متطلبات السوق النفطية، وبدون ان تكون مقيدة بحجم معين من الغاز لا بد من توفره للاستخدامات الصناعية وغيرها، ومن ثم تكون مطالبة بحجم انتاج معين من النفط الخام الذي يخرج معه غاز مصاحب وذلك لمقابلة الاحتياجات الثابتة.

فتح باب التنافس مرة اخرى ودعوة نحو 50 شركة عالمية، اي عدم قصر الامر على الشركات التي تأهلت من قبل ودخلت في عملية التفاوض، وجلها امريكية، لا يشير بالضرورة الى توجيه رسالة الى واشنطون. فلقاء واشنطون الاول الذي نبعت منه مبادرة الغاز بحضور الشركات الامريكية وحدها، تطور فيما بعد ليفتح الباب امام اوروبية وغيرها وذلك قبل احداث الحادي عشر من ايلول. والشركات التي تأهلت مبدئيا لم تحصل على تلك الوضعية لانها امريكية، وانما لقدراتها ووضعيتها المتميزة في الصناعة النفطية. وشركة مثل «اكسون/موبيل» مثلا يزيد انتاجها النفطي اليومي عن المليوني برميل، الامر الذي يجعلها تتجاوز بانتاجها ربما اكثر من نصف الدول المنتجة في اوبك.

لكن يبقى من المهم ان تستمر العلاقات الثنائية بين البلدين في اطار المصلحة المشتركة القائمة على اسس واضحة، مكنتها من الصمود طوال العقود الماضية، وربما يكون مفيدا في هذا الجانب استكمال عملية المراجعة التي تمت لبعض جوانب المبادرة وذلك بتخطي جانب الاهداف المتعارضة لكل طرف. ففي الوقت الذي كانت فيه السعودية تسعى الى جذب استثمارات لتمويل انشطة في مجالات تهمها، كانت الشركات ترى في المبادرة موطئ قدم يتيح لها الدخول في المجال الاكثر اغراء وفائدة لها، وهو ميدان استكشاف وانتاج النفط الخام.