بداية جيدة نحو الديمقراطية في العراق

TT

ها هو بول بريمر، الحاكم الأميركي المؤقت للعراق، وبعد مضي شهرين بالتمام من وصوله إلى بغداد، يرد على اطروحات المتشائمين بإنشاء سلطة عراقية مؤقتة كخطوة أولى باتجاه اقامة الديمقراطية في ذلك البلد الذي عصفت به الحرب.

هذه السلطة الجديدة، التي تم تقديمها باعتبارها مجلس حكم، تعد الأكثر تمثيلا مما شهده العراق منذ تأسيس الدولة في عام 1921.

بمقاعدهم الـ14 من بين مقاعد المجلس الـ25، يكون نفوذ شيعة البلاد السكاني، حيث يمثلون 60 في المائة، قد ظهر للمرة الأولى. وقد حصل الأكراد على خمسة مقاعد، بما يعكس أيضا تنوعهم اللغوي والديني والثقافي. وحصل السنة العرب على خمسة مقاعد، تجاوزت قليلا نفوذهم السكاني، لكنها عكست اعتيادهم التاريخي على حكم البلاد. وحصل المسيحيون الذين يمثلون نسبة 3 في المائه من السكان، على مقعد واحد، تماما كما هو حال التركمان الذين يمثلون واحداً في المائة من السكان.

على أن مجلس «بريمر باشا» هذا، يجب ألا ينظر اليه البعض على انه استعراض للتنوع العرقي والديني في العراق. فبالاضافة إلى الهويات العرقية والدينية، يمثل أعضاء المجلس تراثا غنيا من التقاليد السياسية. فهناك الليبراليون والاشتراكيون، والمعتدلون من الإسلاميين والمتشددون، وأنصار القومية العربية وأنصار الملكية، وحتى بعثيون منشقون.

وهكذا لا توجد هيئة حاكمة في أي مكان بالعالم العربي تعكس مثل هذا التنوع. لكنها ما تزال مجرد خطوة اولى. فما يزال أمام بريمر مهمة شاقة تتمثل في إقناع أعضاء المجلس بأن ينسوا خلفياتهم تلك، التي تتضمن الشك المتبادل إن لم نقل الكراهية، وأن يتعلموا كيفية العمل معا.

فهؤلاء هم مجموعة من الرجال والنساء الذين نشأوا في ظل تقليد ساد فيه أسلوب قتل المعارضين، باعتباره أفضل وسيلة لوضع نهاية لخصومة سياسية. ويخشى البعض أن يجد أعضاء المجلس أنفسهم وقد بات كل منهم راغبا في التخلص من الآخر.

أحد السبل الكفيلة بمنع حدوث ذلك هي أن يشرف بريمر على عمل المجلس عن قرب خلال فترة الشهور الأولى. فهو كأجنبي لا يكن العداء لهم ولا هو صديق لهم البتة، ويتمتع بالقدرة على مراقبة المجلس خلال فترة عمله التجريبية.

ويتوجب على بريمر أن لا يأبه بنصيحة مبعوث الأمم المتحدة الخاص سيرجيو فييرا دي ميللو، الذي يتطلع لدفع الولايات المتحدة إلى الخلف في أسرع وقت ممكن.

فقد يؤدي أقل مؤشر على أن الولايات المتحدة قد تتخلى عن مسؤولياتها أو تحميل بعضها للأمم المتحدة، إلى دفع العملية السياسية في العراق لمرحلة من الارتباك وعدم الوضوح.

ذلك ان السلطة الجديدة تعكس سلسلة من التسويات المتشابكة. أولها تمثل في ما تم التوصل اليه في أوساط إدارة بوش، حيث أنحت وزارة الدفاع ووزارة الخارجية والبيت الأبيض جانبا «رؤاها» المتعارضة بشأن العراق، وأقرت استراتيجية بريمر الواقعية.

التسوية الثانية تمت في إطار الجماعات العراقية المختلفة، وجاءت انعكاسا لسلسلة من التسويات التي تمت في إطار كل منها.

ثالث التسويات تم بين تحالف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من جهة والأمم المتحدة من جهة أخرى، وهي التي قد يكون التعامل معها خلال الأشهر المقبلة أكثر صعوبة. ذلك أن عددا من الأعضاء الرئيسيين في الأمم المتحدة، وخاصة روسيا والصين وفرنسا، عقدوا العزم على أن يكون لهم نفوذ أفضل في تشكيل مستقبل العراق، وأن يحرموا الولايات المتحدة من حق توجيه الأمة التي تم تحريرها مؤخرا نحو نظام سياسي واقتصادي على الطريقة الأميركية.

لقد دعا ممثل الأمم المتحدة بالفعل إلى تأجيل خطط الإصلاح التي وضعت لتحرير الاقتصاد العراقي وتخفيف حدة سيطرة الحكومة المركزية على واردات الأمة. لكن بدون إنشاء قطاع خاص قوي، فإن العراق قد يعود مستقبلا لشكل من أشكال التعسف.

والآن، وقد تأسس مجلس الحكم العراقي، فإن السؤال المطروح هو: ماذا يفترض أن يفعل هذا المجلس؟ إذ يبدو إنه حتى بريمر، لم تتوفر لديه إجابة واضحة، وهو ما يدفعنا لطرح المقترحات التالية:

* يتوجب على المجلس الجديد أن يحظى بمكانته كرمز للدولة العراقية، بما يعكس السيادة الوطنية وفقا لأسس مؤقتة. ويمكنه مزاولة العديد من الوظائف الشكلية كاستقبال المبعوثين الأجانب وإيفاد المندوبين للقيام بمهام ديبلوماسية.

* يمكن للمجلس أيضا أن يعين لجنة تتولى صياغة مشروع دستور جديد يمكن أن يطرح على الشعب لمناقشته ثم إقراره في نهاية الأمر من خلال استفتاء عام. ومن المهم أن يحدد بريمر إطارا زمنيا بهذا الخصوص. كما يتوجب عليه إصدار إعلان يتضمن المبادئ الرئيسية لصياغة مشروع الدستور الجديد.

* يستطيع المجلس اصدار تصاريح مؤقتة للأحزاب السياسية، تمهيدا لإجراء الانتخابات العامة. إذ يمكن للبرلمان المنتخب مستقبلا، أن يعمل على إقرار قانون دائم للأحزاب.

* ويمكن للمجلس أن يصدر مراسيم بشأن تشكيل جيش جديد وقوات شرطة، بحيث يمنح العمليتين، اللتين تمضيان بالفعل، أساسا قانونيا.

* يقوم المجلس بتعيين موظفين متخصصين لتحمل مسؤوليات الوزارات والهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة. وهنا يتوجب على بريمر أيضا أن يحتفظ بالكلمة النهائية لمنع المحسوبية والمجاملات والفساد.

* يؤسس المجلس لشكل من المصالحة الوطنية، بحيث يتم عزل البعثيين المجرمين والسماح لموظفي النظام السابق، الذين لاحول لهم، بأن يعودوا إلى وظائفهم ويتأقلموا مع العراق الجديد.

* يعد المجلس مقترحات متعلقة بالخصخصة يمكن للبرلمان المقبل أن ينظر فيها. وهذا يعني أن على بريمر ألا يقرر خصخصة أي شيء إستنادا إلى مراسيم. وما يتوجب عليه أن يفعله هو تسويق ثقافة الخصخصة والسماح للبرلمان المنتخب بأن يتخذ القرارات المطلوبة بحرية.

* يقر المجلس ويشرف على موازنة عام 2004. على اعتبار أن هذه الموازنة ستتمحور في النفقات الجارية فقط. أما الحديث عن موازنة أشمل قد تتضمن مشاريع خاصة بإعادة البناء والتنمية، فيجب أن يؤجل حتى تشكيل برلمان منتخب، يمكن أن يتم قبل نهاية العام المقبل.

يشير تشكيل المجلس المؤقت إلى أن الولايات المتحدة ليست بصدد المضي قدما بأحلامها الإستعمارية في العراق. لكن هذا يجب ألا يعني أيضا ان التزام واشنطن تجاه العراق مسألة مؤقتة.

فالعديد من العراقيين يعتقدون بأن التواجد الأميركي مطلوب لسنوات مقبلة يتسنى خلالها لجيل جديد من قادة البلاد أن ينهضوا في ظروف ديمقراطية تعددية.

يقول غسان العطية، أحد مثقفي العراق المحترمين: «بصراحة، أنا شخصيا أفضل أن تتولى الولايات المتحدة الحكم مباشرة لسنوات عديدة. فبعدما تجولت في أنحاء العراق مؤخرا، وتحدثت مع الناس من مختلف أطياف الحياة، يمكنني القول إن العراقيين يثقون في أميركا أكثر من ثقتهم في سياسيينا المحليين».

العديد من العراقيين، بمن فيهم بعض أعضاء المجلس الجديد، أعربوا في جلسات خاصة عن وجهات نظر مشابهة.

ومع ذلك، من غير المحتمل أن يدعم الرأي العام الأميركي أي تورط للولايات المتحدة في حكم العراق بما يتجاوز العامين أو الثلاثة أعوام المقبلة.

وهكذا، فإن أمام بريمر باشا وقتا محدودا يتوجب عليه خلاله تحويل مجتمع تشكل عبر ما يقرب من نصف قرن من التعسف، إلى مجتمع مبني على التعددية وتقاسم السلطة.