(1958 ـ 1963) حلف بريطانيا والشيوعيين العراقيين منع وحدة العراق مع سورية ومصر

TT

لولا وحدة سورية ومصر (1958) لما كان انقلاب قاسم / عارف في العام ذاته في العراق. انتشى ضباط الجيش العراقي القوميون بخمر المد الوحدوي، ولم يعودوا يستطيعون الصبر على نوري السعيد وعبد الإله، وهم يرون جمال عبد الناصر يطل من شرفة قصر الضيافة في دمشق على أمواج السوريين المتجمعة لاستقباله.

غير أن الانقلاب الذي أتى بالنظام الجمهوري قضى منذ ذلك الحين على إمكانية تطوير الديمقراطية العراقية، وأرسى مبدأ القوة الدموية كقاعدة عراقية للعبة السياسية. ثم ما لبث أن قوض الأمل بانضمام العراق إلى الوحدة السورية ـ المصرية، وصرم بردته على الحركة القومية الهوى العذري الذي راود السوريين والعراقيين منذ مطلع القرن العشرين بوحدة بين البلدين.

أحاول أن أحصر هذه الأحاديث المتتابعة بالعلاقة السورية ـ العراقية. وما زلت عند رأيي بأن الحدث السوري يترك فوراً صداه في العراق، والعكس صحيح. لكن لكي نفهم طبيعة هذه العلاقة، فلا بد من التمهل أحياناً عند بعض الأشخاص والظروف.

وأنا هنا أتوقف عند عبد الكريم قاسم ونظامه الذي يختلف العراقيون كثيراً في تقييمه. فشخصيته تنطوي على تناقضات نفسية طرحت ظلالها على العلاقة مع سورية وعلى الصراع الداخلي في العراق.

ويمكن اعتبار قاسم عراقيا أولا وأخيرا. فلم تأخذه حماسة شركائه الانقلابيين لوحدة مع سورية الناصرية. وقد فرض هذا الفتور «اللاوحدوي» عليه اعتماد قاعدة مزدوجة يستند إليها نظامه: كبار ضباط الجيش الذين ما زالوا على علاقة ما مع بريطانيا، ثم الشيوعيون الذين تطوعوا لتشكيل قاعدة شعبية له!

زواج المصلحة أو المرحلة جمع، إذن، بين بريطانيا والشيوعيين العراقيين في «الانتفاع» بقاسم لقطع الطريق على وحدة عربية تمتد بنفوذ عبد الناصر ودولته إلى الخليج. وكانت بريطانيا ضد كل وحدة تتجاوز جامعة الدول العربية التي ساهمت في إنشائها كبديل للوحدة القومية. ورأت في نظام قاسم خطا دفاعيا ضد حليفتها الأكبر أميركا الجاهدة آنذاك في تصفية الاستعمار الأوروبي القديم وما بقي من نفوذه في العالم العربي.

أما الشيوعيون العراقيون فهم بحكم رؤيتهم الآيديولوجية وكأي حزب شيوعي عربي آخر، يعتبرون القومية العربية «حركة رجعية وعنصرية» لا تنسجم مع الأممية الماركسية. ثم هم في تركيبهم العضوي ينطوون على قيادات شيعية وكردية ترفض بشدة عراقا عربيا ووحدويا. وقبل ذلك كله هناك التطلع الشيوعي إلى أن يكون قاسم مرحلة ممهدة لتسلق سلَّم السلطة.

هذا الحلف المخالف للطبيعة تكرر أيضا في بداية السبعينات، عندها حاول الشيوعيون بدعم بريطانيا تعطيل اندفاع السودان نحو مصر الناصرية وقلب نظام نميري (الاشتراكي الناصري). ولولا احتجاز القذافي لطائرة الضابط الشيوعي هاشم العطا العائد من لندن إلى الخرطوم، لربما نجح الانقلاب.

وعلى أية حال، فتناقضات زواج المنفعة سمحت لأطرافه بممارسة «خيانات» زوجية فيه. كان عبد الكريم قاسم يطالب أيضا بالكويت ويوبخ حليفته «بريطانيا التي تريد أن تجعل من بئر بترول دولة». بل لم تعترض بريطانيا على انهيار «حلف بغداد» كتحصيل حاصل محتم بعد الانقلاب اليساري.

لكن الشيوعيين العراقيين، مع الأسف، كانوا أول المبادرين إلى إهراق الدم الجماعي في تاريخ العراق الحديث. فقد فتلوا الحبال وسحلوا بها أعداءهم القوميين من بعثيين وناصريين، ثم انطلقوا في تملق سذاجة قاسم وطموحه السلطوي عبر شعاراتهم الدعائية (ماكو زعيم إلا كريم) ضد جمهورية ناصر القومية.

كانت محكمة فاضل عباس المهداوي (ابن خالة قاسم) مسرحا لغوغائية مروعة مقززة للنفس، ومعبرة عن التشرذم العربي العميق الذي لا يشابهه سوى الانقسام الحاصل اليوم. فاق المهداوي نده المصري أحمد سعيد في الرغي وبث الكراهية. وكان في تفاهة سطحيته أشبه بسعيد الصحاف وزير إعلام صدام. وشكل الشيوعيون «الكورس» الذي ينشد القصائد المشجعة للقاضي على إصدار أحكام الإعدام.

عبد الكريم قاسم في عقده النفسية وتناقضاته السياسية كان نزيه النفس عَفَّ الذمة. بعض العراقيين يعتبره الأب الحقيقي لإعمار العراق. فقد خطط ووسع بغداد ومدنا أخرى وهو حبيس مكتبه في وزارة الدفاع. فلم يبن قصرا، ولم يسرق مالا.

وأقول هنا إن ثوريي الخمسينات والستينات، على اختلاف اتجاهاتهم، من ناصر والسراج وصلاح جديد وعبد الفتاح اسماعيل... احتفظوا بطهارة الذمة الشخصية، على الرغم من إنفاقهم الواسع على مشاريعهم السياسية والأمنية. كان علينا انتظار السبعينات، لكي نرى كيف يغرق «الثورجيون» الجدد بالفساد، بعدما اعتبروا الإثراء غير المشروع مكافأة لهم على نصف النصر ونصف الهزيمة في حرب أكتوبر.

غير أن «فضائل» قاسم هذه لا تشفع للدمار والتخريب اللذين ألحقهما بالقضية القومية. وكان خطأه الأكبر إعدامه رفاق السلاح من الضباط القوميين والناصريين كعبد الوهاب الشواف وناظم الطبقجلي... الذين كانت حماستهم القومية جريمتهم الوحيدة.

لم يكن قاسم الذي حل محل نوري السعيد قادراً على الاستمرار في مقاومة المد القومي. لكن مبادرته إلى معارضة دولة الوحدة شجعت خصومها الآخرين على ضربها من داخلها (1961) مستغلين لا ديمقراطية ناصر وعبث مشيره عامر الذي مارسه في الجيش وفي سورية.

كان أمام قاسم فسحة عامين آخرين للبقاء في السلطة وفي الدنيا، ولنشدان علاقة خاصة مع سورية، قبل أن يدفع بالدم ثمنا لما أهرق من دم وما خرب في السياسة. كان شريك قاسم في هذه العلاقة سياسي سوري يحاكيه في نزاهة الذمة، ونقيضا له في الممارسة السياسية، ومتفقا معه في مناصبة ناصر العداء.

كان اللقاء السري بين ناظم القدسي وعبد الكريم قاسم في جوف الصحراء السورية بمثابة خيبة أمل كبيرة، ليس بالدكتاتور العراقي وإنما بالديمقراطي السوري. كنت أتابع بإعجاب ناظم القدسي وهو يملأ بجسده النحيل كرسيه بجدارة على منبر الرئاسة في مجلس النواب السوري (54 ـ 1958). كان القدسي بذكائه وثقافته ورصانته ودعابته السورية اللاذعة يملأ الحياة السياسية آنذاك بالحرارة والحيوية.

شكل قبول القدسي منصب رئاسة الجمهورية بعد انفصال سورية عن مصر ذروة المأساة في حياته السياسية. فقد خسر مصداقيته كسياسي نزيه، وناقض نفسه كداعية وحدة وهو الذي بلور في عام (50 ـ 1951) أول مشروع وحدوي قومي، وحمله بنفسه إلى عواصم العرب «اللاوحدوية».

رضي القدسي بما رفضه رشدي الكيخيا نده ورئيس حزبه (حزب الشعب). قبل أن يكون رئيسا لجمهورية الانفصال السورية، وراح يطوف المحافظات لتأليب جماهيرها ضد عبد الناصر، وفي ركابه جوقة هتافة من شيوعيي الشارع الغوغائي.

لم يعتبر القدسي بالإهانة الشخصية التي لحقت به وبمنصبه. فقد عبأه ضباط الانفصال في دبابة وأودعوه سجن المزة، وذهبوا إلى عبد الناصر في القاهرة نادمين باكين مطالبين بعودة الوحدة. وكان خطأ ناصر برفض (الوحدة التي ذهبت بانقلاب لا تعود بانقلاب) سببا في إطلاق سراح القدسي. لم يقدم رئيس الجمهورية استقالته ثأرا للإهانة، بل ها هو يذهب وهو رئيس لنظام ديمقراطي إلى لقاء سري مع دكتاتور العراق، بحضور الشيخ معروف الدواليبي رئيس الوزراء السوري الذي ساهم بالتحضير للقاء المشؤوم.

لم يكن اللقاء من أجل إحياء هوى الوحدة القديم بين سورية والعراق. فقد حلت المكيافيلية محل العلاقة العذرية البريئة، وإنما كان لمجرد التنسيق ضد ناصر ومواجهة دعايته الصارخة ضد النظامين السوري والعراقي. فقد وجدت لها، على غوغائيتها، صدى واسعا لدى السوريين والعراقيين.

في عام واحد (1963) سقط نظام قاسم في العراق مضرجا بدمه. بعد شهر واحد سقط نظام الانفصال في سورية. ألم أقل إن الحدث هنا يفعل الأعاجيب هناك؟

غادرت العلاقة الثنائية شرَّ قاسم، لتقع في شر مستطير أكبر، شر صدام. فإلى الثلاثاء المقبل مع علاقة عراق صدام بسورية الأسد.