نظرة علمية إلى مشروع قناة البحر الميت

TT

عادت مشكلة انخفاض منسوب مياه البحر الميت إلى الأضواء مجدداً خلال الأشهر القليلة الماضية، خصوصاً منذ انعقاد قمة الأرض في جنوب افريقيا سبتمبر (أيلول) 2002، حيث أعلنت الحكومتان الأردنية والإسرائيلية خطة مشتركة لبناء «أنبوب السلام» لنقل المياه من البحر الأحمر (خليج العقبة) إلى البحر الميت، بتكلفة أولية تقارب مليار دولار أميركي. ويعتبر هذا المشروع، الحلقة الأحدث في سلسلة مشاريع اقترحت منذ عام 1850 لوصل البحر الميت بالبحار المفتوحة.

كما هو معروف فإن منسوب مياه البحر الميت ينخفض تدريجياً منذ الستينات من القرن العشرين، بمعدل يقدر ما بين 50 إلى 95 سنتيمترا سنويا، والسبب الرئيسي لهذا الانخفاض هو تحويل مصادر المياه بعيداً عن البحر الميت إلى مراكز الكثافة السكانية في المنطقة.

فمياه نهر الأردن تحوّل بمعظمها من بحيرة طبرية إلى النقب، ومياه نهر اليرموك تحوّل إلى قناة الملك عبد الله في الأردن أو تستغل من قبل سورية.

بالإضافة إلى ذلك شيدت سدود لاستغلال المياه الآتية من الأودية الشرقية إلى البحر الميت ونهر الأردن. ونتيجة لكل هذه المشاريع، انخفض معدل سيلان المياه السطحية إلى البحر الميت ليصل حاليا إلى ما نسبته %15 عما كان عليه في الخسمينات من القرن العشرين.

السبب الثاني لانخفاض منسوب المياه، هو المشاريع الصناعية جنوب البحر الميت، حيث تستهلك الصناعات الكيميائية، كالبوتاس، كميات متزايدة من مياه البحر الميت، وهذا الاستهلاك سيزداد في المستقبل مع المشاريع المقترحة لتنمية الصناعات.

لكن انخفاض منسوب المياه ليس بحد ذاته «المشكلة»، فالأدلة التاريخية تثبت أنه خلال الثلاثمائة سنة الماضية، تأرجح منسوب المياه ما بين 375 و405م (تحت مستوى سطح البحر). أما «المشكلة» فهي حقاً النتائج المترتبة على حدوث انخفاض منسوب المياه، وأهمها وأسوأها انخفاض منسوب المياه الجوفية في المناطق المجاورة للبحر الميت، والحفر الانهيارية، وازدياد ملوحة مياه البحر الميت، وتبلور وترسب الأملاح.

مشروع «أنبوب السلام» كغيره من المشاريع السابقة يصرّح بأن الهدف الأساسي هو إنقاذ بيئة البحر الميت وإرجاعه إلى منسوبه التاريخي. وثمة أهداف أخرى للمشاريع، تذكر دائماً أيضاً، تتمثل في توليد الطاقة الكهربائية ومشاريع تحلية المياه.

في هذا المقال نطرح السؤالين التاليين ونجيب عنهما بشكل علمي مبسّط:

1 ـ هل سيجف البحر الميت؟

2 ـ هل «أنبوب السلام» هو الحل؟

هل سيجف البحر الميت؟

في مايو (أيار) 1982، عرّفت لجنة تحقيق من الأمم المتحدة المنسوب التاريخي للبحر الميت على ارتفاع 390.5م (تحت مستوى سطح البحر)، باعتبار أن هذا المنسوب يضمن عدم إغراق أي موقع ديني أو تاريخي، وبأنه مقارن بالمناسيب المسجلة سابقاً، التي أثبتت تأرجح منسوب البحر، إلا ان انخفاض المنسوب حالياً لدون 410م (تحت مستوى سطح البحر)، دفع بالكثيرين إلى التصريح بأن البحر الميت سيجف قريباً.

للحصول على الإجابة عن هذا السؤال، اندفع عدد كبير من الباحثين لدراسة الموضوع وانتج هؤلاء ما يزيد على 100 مقال علمي، والدراسات المنشورة يمكن تقسيمها إلى دراسات نظرت إلى مستقبل البحر الميت على المدى القصير، وأخرى على المدى الطويل.

الدراسات التي نظرت إلى المشكلة في المدى القصير، انحصرت بتوقع منسوب البحر الميت لمدة زمنية محددة لا تزيد بالأغلب عن مائة سنة. واتفقت هذه الدراسات على أن منسوب المياه سينخفض، وقدر أكثرها تشاؤماً المنسوب الجديد بـ 510م (تحت مستوى سطح البحر)، بحلول عام 2109.

أما الدراسات التي نظرت إلى المشكلة على المدى الطويل استهدفت الإجابة عن السؤال الملح «هل سيجف البحر الميت؟»، وتقدير المنسوب الذي سيستقر عليه البحر، ان كانت الإجابة بالنفي. ولوحظ أن هذه الدراسات كانت كمية ونوعية: الدراسات النوعية استنتجت أن البحر الميت لن يجف لعدة مئات من السنين نتيجة لازدياد الملوحة في البحر، مما يؤدي إلى تقليل التبخر، ايضا نتيجة لعمق البحر. أما الدراسات الكمية، فطوّرت نماذج لدرس وتقدير منسوب المياه، الذي سيستقر عليه البحر، مستخدمة عدة طرق وأساليب علمية، كموازنات المياه والديناميكا الحرارية. وأجمعت على أن البحر الميت لن يجف، بل قدرت أن منسوب المياه سيستقر بعد 360 إلى 400 سنة على معدل يتراوح بين 500 و680م (تحت مستوى سطح البحر).

من ناحية أخرى، طوّرت بعض الدراسات ـ منها دراسة شارك فيها معدّ هذا البحث ـ نموذجاً وبرامج حاسبية لدراسة البحر الميت ومنسوب المياه فيه. واعتمد الأسلوب المستخدم على حل العديد من المعادلات التفاضلية الذي تصف معادلة المادة والطاقة في البحر الميت، واعتبار البحر كنظام طبقتين لأغراض انتقال المادة، وفي هذه الدراسات جرى بحث 3 سيناريوهات:

1 ـ استمرار الوضع الراهن.

2 ـ توقف الإنتاج الصناعي عند انخفاض منسوب المياه في البحر الميت إلى مستوى معين.

3 ـ نموذج مبسط للتغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة.

وأظهرت النتائج أن منسوب البحر الميت لن يستقر بعد 500 سنة، بل سيواصل الانخفاض، لكن ببطء شديد، وكانت المناسيب المقدرة للسيناريوهات الثلاثة 565م و526م و585م (تحت مستوى سطح البحر) على التوالي.

بالتالي، ما نستخلصه من الدراسات العلمية، يشير إلى أن البحر الميت لن يجف خلال الـ 500 سنة المقبلة على الأقل، رغم استمرار انخفاض منسوب المياه، وهذا ما يناقض الحملات الإعلامية التي تزعم باستمرار أنه سيجف خلال السنوات الـ 50 المقبلة.

هل «أنبوب السلام» هو الحل؟

كما سبقت الإشارة، فإن مشروع ربط البحر الميت بالبحار المفتوحة طرح للمرة الأولى عام 1850 كمشروع بريطاني، بحيث يكون بديلاً لقناة السويس التي كانت آنذاك تحت السيطرة الفرنسية.

هذه الفكرة وئدت تماماً عندما سيطر البريطانيون على قناة السويس، ولم تطرح بعد ذلك أبداً. إلا ان المشروع عاد للظهور عام 1896، لكن على أساس فكرة جديدة، هي بناء قناة لتوليد الطاقة الكهربائية. وقد نشر المفكر الصهيوني ثيودور هرتسل المشروع عام 1902 شارحاً بالتفصيل فكرة بناء قناة لوصل البحر الميت بالبحر المتوسط، ويسهب في شرح فوائدها.

منذ ذلك الحين طرحت عدة بدائل ومسارات لهذه القناة، ففي عام 1981، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية المشروع رسمياً، ووضعت الخطط لربط البحر الميت بالبحر المتوسط عبر قطاع غزة (الدراسات الأولية درست احتمال ربط البحر الميت بالبحر الأحمر كبديل، لكنه لم يعتمد). ثم توقف المشروع رسمياً عام 1985، نتيجة لضغوط سياسية واقتصادية دولية. وفي تلك الفترة، طرحت الحكومة الاردنية مشروعاً بديلاً لربط البحر الميت بالبحر الأحمر، كرد على المشروع الإسرائيلي. غير أن الدراسات المستقلة أثبتت أنه لا مكان لمشروعين منفصلين، كما ان تنفيذهما معاً سيؤدي إلى كارثة اقتصادية وبيئية، من ثم لا بد من الاتفاق على مشروع واحد، إذا قدّر له أن يرى النور.

هذا التعاون لم يكن ممكناً في ذلك الحين، وأصبح ممكناً فقط بعد العامين 93 ـ و1994، نتيجة توقيع «اتفاقات أوسلو» و«معاهدة السلام الأردنية ـ الاسرائيلية»، حيث ورد ذكر مشروع قناة البحر الميت ـ البحر الأحمر، كأحد بنود الاتفاقيتين، وكحجر أساس لمشروع تنمية وادي الأردن.

أجريت عام 1996، دراسة جدوى اقتصادية وبيئية للمشروع من قبل الشركة الأميركية هرزا، التي درست خمسة بدائل لمسارات القناة، واعتمدت مساراً يمر كلياً داخل الأراضي الأردنية. وجرى تعريف الأهداف الرئيسية للمشروع على أنها: إنقاذ بيئة البحر الميت وتحلية المياه وتوفير الطاقة لذلك وترسيخ السلام في المنطقة. وأجريت عدة دراسات بيئية واقتصادية لتحديد فوائد المشروع ومضاره.

الفوائد معلنة ومعروفة، كما ذكر، أما المضار فنادراً ما تذكر في وسائل الإعلام، رغم انها مهمة ومتعددة، أهمها خطر حدوث تلوث المياه الجوفية بمياه مالحة، وأخطار بيئية اخرى تتمثل بترسب موسمي للأملاح ونمو طحلبي في البحر الميت. وتمتد التأثيرات السلبية كذلك لتشمل الصناعات الكيميائية التي ستتضرر بســـــبب انخفاض ملوحة البحر الميت والحاجة لتقوية السدود وضخ المياه من أعماق أكبر، وأخيراً تمس التأثيرات السلبية قــــــطاع الصناعة بسبب تغير طبيعة مياه البحر الميت.

المشاكل التي تعرضت لها مسيرة السلام عطلت المشروع خلال السنوات القليلة الماضية، لكن خلال عام 2002، أعيد طرح المشروع مجدداً باسم «أنبوب السلام»، كبديل لمشروع القناة. وحسب المعلومات المتوفرة، فإن فترة إنجاز المشروع تتضمن 9 أشهر للتخطيط، وبين 3 و5 سنوات للتنفيذ (تمتد إلى 10 سنوات إذا جرى اعتماد محطة تحلية للمياه كجزء من المشروع)، وسيعتمد تاريخ بدء المشروع على التمويل الذي يقدر بـ 800 مليون إلى مليار دولار أميركي (اضافة إلى 3 مليارات لمحطة تحلية المياه).

في ثلاث دراسات حديثة درست الآثار المترتبة لقناة (أنبوب) البحر الميت ـ البحر الأحمر على البحر الميت، اعتبرت إحدى هذه الدراسات «سناريوهين» للقناة:

1 ـ تدفق المياه عميقاً إلى داخل البحر الميت.

2 ـ تدفق المياه إلى سطح البحر الميت.

وأظهرت النتائج أنه باعتماد «السيناريو الأول» ستنخفض كمية المياه المطلوبة ويقل الوقت المتوقع لإرجاع البحر الميت إلى المنسوب المطلوب. ومقابل الحفاظ على الطبيعة الموسمية لنظام الطبقتين في البحر الميت وبقاء ظاهرة الترسب الموسمي للاملاح، ستقل الملوحة بشكل بارز مما يؤثر سلباً في الصناعات الكيميائية. أما مع «السيناريو الثاني» فسيصار كذلك الى ارجاع البحر الميت إلى المنسوب المطلوب، لكن بوقت أطول، بيد ان نظام الطبقتين سيتحول إلى نظام دائم.

النتائج كما يتبين تظهر أن القناة (الأنبوب) ستعيد منسوب البحر الميت إلى منسوبه التاريخي، لكن طبيعة المياه وتركيبها الفيزيائي سيكون مختلفاً جداً عما كان عليه في الخمسينات من القرن العشرين، وبالتالي لن يتحقق الهدف الأساسي من المشروع، ألا وهو «إنقاذ» البحر الميت، كذلك ان النتيجة ستكون بحراً جديداً مختلفاً تماماً عن البحر القديم.

اضافة لذلك، فإن النشاط الزلزالي وخطر حدوث أعمال تخريبية، يهددان بحدوث تلوث للمياه الجوفية. وبأخذ النقطة الأخيرة بالاعتبار، فإن مشروع الأنبوب يمثل حلاً أفضل من القناة، لأنه يقلل مخاطر الزلازل والنشاطات التخريبية، مع وجوب التأكيد على أنه ليس الحل لمشكلة إعادة تأهيل بيئة البحر الميت، انه فقط حل لاعادة منسوب المياه في البحر الى منسوبه التاريخي وليس حلا لإعادة البحر إلى ما كان عليه.

الخلاصة

تجمع كل المصادر على أن انخفاض منسوب مياه البحر الميت مشكلة تتطلب حلاً عاجلاً، وتثبت النتائج المستخلصة من الأبحاث العلمية أن البحر الميت لن يجف خلال السنوات الـ 500 المقبلة، بعكس ما تروج له وسائل الإعلام المحلية في الشرق الأوسط. ورغم ان (أنبوب السلام) سيحل مشكلة انخفاض منسوب المياه، إذا ما نفذ، فإنه لن ينقذ بيئة البحر الميت، ولن يعيدها إلى ما كانت عليه.

بالاضافة لذلك، رغم فوائد المشروع الاقتصادية، للمشروع عدة مخاطر، أهمها احتمال تلوث المياه الجوفية.

وعليه تتمثل الخطوة الأولى لحل المشكلة بشكل جذري بإجراء دراسة شاملة ووضع خطة إقليمية لإدارة مصادر المياه، وإجراء تقييم لكل النتائج والمخاطر قبل المباشرة بتنفيذ مشروع بهذا الحجم معتمدين فقط على تهويل إعلامي وغير عابئين بالأدلة العلمية الدامغة.

* باحث وخبير أردني يحمل درجتي دكتوراه من جامعتي نوتينغهام (بريطانيا) وبرلين (ألمانيا)