حكايات للصيف - كاتب السيرة

TT

أقرأ، في متعة أخّاذة، في حوار مع الكاتب الفرنسي جان لاكوتور، عنوانه «المهنة: كاتب سيرة». ويروي اشهر مؤرخي فرنسا المحدثين، سيرة حياته ونشأته المحافظة وعمله في الصحافة (الموند) ومحطات مهنته كمراسل في مصر وفيتنام وسواها. كما يروي كيف اعجب بعبد الناصر وكيف غادر القاهرة قبل عدوان السويس «لكي لا ارى الجنود الفرنسيين يقاتلون في قضية خاسرة». ويحدث عن تعاطفه مع المشاعر العربية. ويقول لقرائه (الفرنسيين وليس نحن) انه نشأ في بيت كاثوليكي تقليدي لا يتسامح حتى مع البروتستانت!

في الستينات شاع في اوساط «النخبة» في لبنان ان جان لاكوتور «يهودي». وكان اهل «النخبة» الذين لم يقرأ معظمهم «الموند» مرة واحدة يصرفون بحركة من ايديهم كتابات لاكوتور على انها «تمويه». وصدف انه كان في «الموند» تلك المرحلة الصحافي اريك رولو المقرّب من عبد الناصر والذي كان يهاجمه احمد شومان في «النهار» تحت اسم الياهو رفول. وكان شائعا آنذاك، كما هو سائد الآن، ألا يكلف احد نفسه مغبة السؤال او الاستيضاح عن شيء. ويكفي ان يلقي احدهم كلمة في المقهى حتى تذهب مثلا.

العام 1974 رافقت غسان تويني في جولة في اميركا وكندا ألقى خلالها سلسلة من المحاضرات حول القضية الفلسطينية. وفي مدينة كيبك الكندية الساحرة كان جان لاكوتور بين المحاضرين. وكان لا بد ان نلتقيه في الاروقة والمجالس. وكان في اللقاءات يومها مروان حمادة، احد ابرز كتابنا بالفرنسية، ولاحقا احد افضل وزرائنا. وذات يوم تطوعت بأن اذكّر غسان ومروان بحقيقة يجب ألا تغيب عن بال احد. قلت لهما غامزا لامزا هامسا ومؤكدا انه يجب ألا نؤخذ بمواقف الرجل وكياسته، فربما كان يضمر شيئا! ويا امة ضحكت من جهلها الامم. كم ضحكت من نفسي وانا اقرأ حتى ساعات الفجر في سيرة هذا الاستاذ المجتهد الذي سوف يصبح مؤرخ ديغول وعبد الناصر وغيرهما. وكم ضحكت من المقاهي العربية واحكامها ومن يوم «حذرت» اهل الرحلة الى مدينة كيبك. كان ذلك عصر احكام المقاهي. وكان «كوميسار» المقهى هو الذي يصدر الاحكام. وبقي اريك رولو، او الياهو رفول، حتى هذا اليوم اقرب او اعمق اصدقاء العرب في فرنسا. وقد جعله فرنسوا ميتيران سفيرا في تونس خلال افضل مراحل العلاقة بين البلدين.

كان الراحل نبيل خوري يروي في المجالس التي يسيطر عليها بظرفه وخفة ظله، انه كان ذات مساء في مكتبه في «الصيّاد» يبحث عن موضوع للافتتاحية. واتصل به احد اصدقائه يدعوه الى سهرة في الجبل وهو بعد لم يعثر على موضوع للافتتاحية. وقام يتمشى في المكتب بعصبية، فلمح على طاولة جانبية مجلة اجنبية عليها صورة مارلون براندو. ولمعت الفكرة. وجلس الى مكتبه يكتب كعادته بأسرع من الصوت، مقالا عنوانه: امنعوا هذا الصهيوني! وقال نبيل ان براندو معروف بميوله الصهيونية وبعلاقته بالدوائر الصهيونية في هيوليوود، ولذلك يجب ان تمنع افلامه في العالم العربي.

انهى نبيل المقال ورنّ الجرس وارسله الى المطبعة وذهب يسهر في الجبل. وفي اليوم التالي انشغلت بيروت ومكتب مقاطعة اسرائيل ووزارة الخارجية بموضوع مارلون براندو. وطلب مكتب المقاطعة من نبيل «الوثائق» وبظرفه وسرعة خاطره وعد بتقديمها... في العدد المقبل.