مأزق الإدارة الأميركية يتزايد عمقا وتعقيدا

TT

يبدو ان الولايات المتحدة الاميركية دخلت في مأزق خطير باحتلالها للعراق من غير التفكير في نهاية هذه المغامرة، التي قد تتجاوز خطر تورطها في حرب فيتنام قبل حوالي ثلاثة عقود. فالجدل يدور حول ما بعد الاحتلال؟ وما اذا كانت اسلحة دمار شامل؟ وهل الولايات المتحدة الاميركية اكثر رحمة واهتماما بالعراقيين من الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، الذي يبدو انه لا يزال يؤثر في تحريض العراقيين على مقاومة الاحتلال الاميركي والبريطاني؟ وما هي المدة الزمنية لبقاء الاحتلال الاميركي والبريطاني في العراق، واهداف هذا الاحتلال الذي لم يعثر على اسلحة دمار شامل مزعومة، ويبدو ان الادارة الاميركية لم تتوقع حرب العصابات بعد سقوط العراق تحت سيطرتها.

ثمة فارق زمني وحضاري بين المانيا التي جرت اعادة بنائها بعد الحرب العالمية والعراق، ما يجعل احتلال العراق قضية معقدة، وبخاصة ان الادارة الاميركية لم تقدم خطة متكاملة لاعادة بناء العراق على غرار خطة مارشال في المانيا. لذا ستواجه الولايات المتحدة الاميركية مقاومة عنيفة لا تساعدها على تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، في بلد عرف عن أهله الشدة وعدم قبولهم حكم الاجنبي، وستكون مقاومة الاحتلال قوية، لأن العراقيين لم يجدوا في الولايات المتحدة الاميركية ما يبعد عنهم شبح الجوع والفقر ويؤمن لهم الاستقرار السياسي والاقتصادي.

وليس غريبا ان نرى اصواتا عراقية تنادي بـ «نار صدام على رحمة الاحتلال الاميركي»، الذي بات عاجزا عن تحقيق الامن والاستقرار في بلد مزقته الحروب والصراعات السياسية منذ امد بعيد، بل لقد ساهمت الولايات المتحدة في اندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية التي قتل فيها الابرياء من الطرفين. لقد كانت حربا طاحنة اكلت الاخضر واليابس، واستهدفت اضعاف وتحييد دولتين اسلاميتين تقاومان التطبيع مع اسرائيل التي يسرها اليوم ضعف البوابة الشرقية للوطن العربي، والتأجيج لحملة سياسية وربما عسكرية ضد ايران، بالتعاون مع حلفائها الاميركيين والبريطانيين، فالضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة الاميركية ضد ايران لتفتيش منشآتها النووية كان بتحريض من اسرائيل واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الاميركية.

ونرى على شاشات الفضائيات المحلية والعالمية الاخبار التي تشير الى تفاقم الموقف في العراق، حيث يقتل جندي اميركي كل يوم على يد «الثوار الشعبيين» الذين تشير المعلومات الى انهم مدعومون من قبل الرئيس المخلوع صدام حسين الذي القى كلمة يشجع فيها العراقيين على طرد الغزاة من بلدهم العراق. ومهما طال احتلال الولايات المتحدة الاميركية، فإنها ستواجه بمقاومة شرسة من العراقيين الذين يرون فيها صفات الاستعمار الذي ذاقوا ويلاته على مر العصور. والحقيقة ان القضاء على رموز النظام السابق والمتمثل في الرئيس صدام حسين ونجليه وبقية اعضاء حكومته البارزين آنذاك، لن يضعف المقاومة ضد المحتلين، بل سيزيد من دوافعها.

ويعتقد البعض ان عرض صور عدي وقصي مقتولين في وسائل الاعلام المختلفة سيثير فرحة العراقيين لانتهاء حقبة من تاريخهم المظلم، إلا اننا نرى العكس، فالعرض الاعلامي اثار شعور الكثيرين. واما ما تحدث عنه وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد عندما سئل ما اذا كانت الطريقة التي قتل بها عدي وقصي والتشهير الاعلامي بجثتيهما خرقا واضحا لمعاهدة جنيف لمعاملة الاسرى والقتلى، حين قال ان ما رأيتموه يعتبر شيئا طبيعيا في تلك المنطقة، فهو يعني بذلك انه لا وجود لحقوق الانسان في منطقتنا العربية. ويعتبر هذا التبجح الفاضح مخالفا لما اعلنه الاميركيون عن مجيئهم لتحرير العراقيين.

لقد مضى اكثر من ثلاثة اشهر والعراقيون لا يزالون يعيشون حياة مأساوية صعبة، حيث لا يتوفر لهم الدواء والغذاء والأمن والماء والاتصالات والمواصلات وغيرها من اساسيات الحياة، ما يجعل الاحتلال يواجه انتقادات حرجة داخل العراق وخارجه، فالعراق حضارة تندثر بهوس الاحتلال وعدم اكتراثه بحمايتها من العبث، بل ان جنود الاحتلال قاموا بسرقة وتهريب هذه الثروة الثمينة خارج البلاد. مأزق الاحتلال يتمثل في عدم قدرته على حفظ الامن واستتبابه.

ويؤكد استخدام الاحتلال الاميركي للعراقيين لتقديم معلومات سرية عن العراقيين الموالين للنظام السابق ضعف المخابرات الاميركية، بل ويزيد من الانتقام والثأر في صفوف العراقيين ضد من يسمونهم بالخونة والجواسيس، ما يهدد الامن والاستقرار الذي تتحدث الادارة الاميركية عن اهميته في بناء الاقتصاد العراقي. فالأجدر ان يكون هناك عفو شامل لافراد الحرس الجمهوري الذين يقاومون الاحتلال الذي يحاول القبض عليهم، بل وعفو شامل للبعيدين عن دائرة التأثير السياسي في حزب البعث العراقي المنحل. فملاحقتهم ستزيد من مقاومة الاحتلال وتشتت رؤية الاميركيين ما يجعل الوضع الشامل برمته في خطر مستمر.

وسيزيد وضع الاميركيين تأزما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، لأن كل حزب سيكشف عن عيوب الآخر للتقليل من شأن كل منهما للفوز في الانتخابات، حيث نلمس الانتقادات اليوم حول كذب الرئيس وادارته حول وجود اسلحة الدمار الشامل في العراق، ناهيك عما ورد من انتقادات للكذبة الكبيرة حول شراء العراق كمية من اليورانيوم من دولة افريقية. واللافت للنظر ان العالم لم يحرك ساكنا بخصوص التفرد الاميركي بالهيئات الدولية التي تعمل في مجال الطاقة الذرية واسلحة الدمار الشامل، ليجعلها تخدم مصالحه وكأنها ادارات حكومية اميركية، وليست هيئات دولية مستقلة. وسيجد المتابع للوضع الحالي في العراق انه يتأزم يوما بعد يوم، حيث تزداد المقاومة ضد الاحتلال الذي لا يبدو انه البديل المناسب لفرض السلام والامن والاستقرار للعراقيين.

* استاذ بجامعة

الملك فهد للبترول والمعادن