راويات لحكايا الطغاة بعد الرحيل

TT

يبدو ان قدر النساء في العالم، وعلى الاخص العالم العربي، ان يعشن فترة أطول ليرثن الرجال وأفعالهم، لتستمر مسيرة جدتهن الكبرى الخنساء، أشهر شاعرات الرثاء في تاريخنا العربي، التي عاصرت الجاهلية والاسلام، وشهد لها بعدم التوقف عن البكاء بعد مقتل أخويها وأربعة من أبنائها في الحروب حتى فقدت بصرها، ولولا أنها أجادت الصنعة ووصفت رجال العائلة كما يليق بهم، لما قدر لشعرها أن يصل الينا!.

التاريخ الميثولوجي القديم يقدم لنا مراث اخرى. ففي حضارة الشرق القديم نقرأ بكاء إنانا على شقيقها تموز بانتظار عودته من العالم السفلي. وفي الميثولوجيا المصرية بكاء ايزيس على اخيها ايزوريس، وبحثها عن جثته الموزعة في انحاء مصر. ويحمل لنا التاريخ الاقرب بكاء نساء آل البيت على مقتل الحسن والحسين. في الزمن المعاصر، تتحدث الاشرطة الاخبارية والصور الصحافية، في جلها، عن كوارث يقودها الرجال: حروب وعمليات انتحارية وأخرى إرهابية. والنساء يولولن على الغالي، يحملن صورة الفقيد، أو يلطمن الوجوه والصدور على فقد الحبيب، إبنا أو أخا أو زوجا. دورهن أن يروين الاحداث بعد الجنازة، يعدن تركيب الاحداث كشاهدات، فهن لم يشاركن في صنع القرار. ورغد صدام حسين ليست نشازا في هذا الوضع، رغم أنها كانت ابنة أقوى رجل في العراق، بل والابنة المقربة من أبيها. وهي تروي شهادتها لمحطة (العربية) كمراقبة للاحداث، لم تسهم في صياغة أي قرار منها. وكل ما أدلت به قائم على مشاهداتها القريبة التي جمعتها على الهامش، من غير أن تشرك بها «خوفا من أن تسرب النساء أي سر لصديقاتها أو قريباتها»، حسب قولها. تقدم شهادتها مستخدمة تعابير مثل «كنت اسمعهم، لم يخبرني بكل شيء، وصلني انه كذا».

حتى الان، تبدو رغد صدام حسين أنقى ما ظهر الينا من العائلة، جريئة وصريحة، وتطلب ان يحترم صمتها على ما لا تريد التعليق عليه. رثت بطريقتها من دون نواح، كامرأة مجروحة ومصدومة، وأنا من الذين تعاطفوا معها ومع أختها يوم مقتل حسين وصدام كامل، فنساء عائلات الطغاة يلقين مصيرا شبيها بنساء قادة المافيا. الرجال يقومون بتصفية بعضهم البعض والنساء يتشحن بالسواد. وقد علق أحد الزملاء مكملا: لا يستحقن أي تعاطف فهن يعشن بعد ذلك بالقصور!.

لست في سياق ان أبيض صفحة أحد هنا، مؤكد أن النساء في تلك الحالة، يدفن موتاهن ثم يبدأن بعدّ الغنائم التي خلفها الرجال. ومع ذلك فرغد ورنا وجدتا نفسيهما وسط أفظع ما يمكن أن تنتجه البشرية من فظاظة في السلوك، وعصبية عشائرية قروية ذكورية ضيقة. قررت العائلة تزويجهما ثم قررت ترميلهما، وكان عليهما فقط، تقبل قرارات رجال العائلة والعشيرة الاعزاء، الذين تورطوا في دم الزوجين ووالدي اولادهما. اقول أتعاطف معهما، ولا يعني هذا أنني اؤيد كل ما قالته رغد في حوارها، فهي لا تزال تتحدث عن قيم عشائرية تدفعها للتضحية والصمت على الظلم او التعليق عليه، وسأعجب برغد فعلا عندما تقف بشجاعة وتنتقد ما تم في عهد والدها، مثلما فعلت ابنة ستالين عندما اعترضت على ممارسات أبيها الدكتاتورية. وأن تفعل رغد ما لم يفعله اي رجل في العائلة، وتعتذر بالنيابة عنهم مبدية أسفها على المقابر الجماعية، وعلى كل الضحايا الذين اغتيلوا وعذبوا. أعتقد وقتها ستعيش هي وأختها وأولادهما في سلام، وسيلقون جميعا مزيدا من التعاطف من قبل العراقيين والعرب على السواء. وكان بودي ان تسأل عن ذلك في المحطة التي استضافتها، سؤالا واضحا ومحددا يجعلها تماهي بين المجزرة التي افنت زوجها وشقيقه وعددا من أفراد الاسرة، والمقابر الجماعية التي تكتشف بين يوم وآخر في العراق.

مأساة رغد ورنا واضحة فاقعة، بسبب أنهما تحت الاضواء، وابنتا رجل حكم العراق بقبضة من دم طوال ثلاثين سنة. لكن النساء ما زلن يعشن المتاعب بنسب متفاوتة بسبب ازاحتهن التاريخية من على عرش الالهة القديمة، ثم من على عرش الاسرة بعد ان كانت الام هي التي تتحكم بأحوالها في غياب الرجل الصياد الباحث عن طريدة في الخارج لقوت الاسرة.

في استقرارها الطويل في المكان، بدأت المرأة تجرب زراعة الحبوب التي تخرج من الثمر، فاكتشفت انه بالإمكان ان يكون الخبز ولقمة العيش قريبين من البيت، ومع استئناس الماشية وتربيتها، ما عاد الرجل بحاجة للمخاطرة بعيدا، فاستقر في المكان، واستغل عضلاته ليفرض سيطرته ويحدد نسله وملكيته المحيطة بالبيت. وبذلك كانت المرأة أولى ضحايا اجتهادها للترقي بالبشرية: فقدت حق اتخاذ القرار.

النساء لم يصلن لصياغة قرارات العالم، هذا صحيح، لكن في الاحوال التي ذكرتها تبدو الصورة فاقعة أكثر. فقد قرأت قبل شهور تصريحا لقائدة مجاهدات (القاعدة) في صحيفة «الشرق الاوسط»، اعلنت فيه ان التنظيم بدأ يعول على المرأة في الخطط العسكرية، ومن ذلك القيام بعمليات استشهادية. هكذا فجأة اكتشفت (الجماعة) أن جسد المرأة العورة، يصلح ان يكون قنبلة مفخخة، وأن «الدور الذي رسمه الله لها مثل الحمل والولادة وتربية النشء»، ما عاد عائقا يستدعي من النساء ان يقرن في بيوتهن، لان ذلك هو الانسب لهن وللمجتمع، كما كانوا يرددون. هكذا وبمفاجأة كانت مخبأة لاحتفالات اليوم العالمي للمرأة في مارس (اذار) الماضي، كشفت القاعدة عن ان النساء سلاح احتياط تستغله وقت حاجتها له فقط!.

ولو اتيح لي الحوار مع أم اسامة، قائدة مجاهدات القاعدة، لسألتها: ألا تجدين نوعا من التناقض بين وضع النساء الافغانيات في عهد طالبان برعاية القاعدة، وبين تعبئتكن العسكرية الان؟ ألم تمنع المرأة من حق اساسي هو التعليم، بحجة ان المدارس من أماكن الرجس والشيطان ؟ أم ان الجماعة يفضلون الاستشهادية امية لا تفك الحرف، و«الرك» على الجسد لا على العقل؟. ولو يا أم أسامة!.. هل ترضين انت وصويحباتك ان تبقين في حرملك القاعدة تنجزن الاعمال اللوجستية من اعداد طعام و«الادلال على المنافقين والمطلوبين للمجاهدين»؟. أليس في الدور تكريسا واضحا لصفة الغواية «كيد النساء»، التي توصف بها المرأة من قبل الرجال المناهضين لمشاركتها في أي مسؤولية اجتماعية.. دور استخباراتي فيه احياء لدور الجواري في القصور، من نسج الدسائس او نقلها بين المتنازعين على السلطة؟ ام أن ناقصات العقل لا يصلحن لمهام جلل من تلك التي يخطط لها افراد الجماعة؟

وهل وضع النساء في حكومات اميركا وبريطانيا أفضل حالا؟ يسأل الزميل. أجيبه، طبعا، أقله أن النساء في المجتمعات الديمقراطية يعترضن ويسجلن المواقف، فماذا تستطيع ان تفعل المرأة في تنظيم القاعدة، او في منزل صدام حسين؟ حسب تصريح ام أسامة قائدة المجاهدات في القاعدة، أنها لا تتدخل بغير شؤون المجاهدات (اللوجستية)، أما رأيها في شؤون التنظيم فهو «رأي قاصر أمام آراء اخوتي القادة الافذاذ»!.

* كاتبة وصحافية سورية مقيمة في بريطانيا

[email protected]