الدستور المؤقت.. مَخرَج لاستقلال العراق وحماية مستقبله

TT

من جملة النتائج العرضية لسقوط نظام صدام حسين بواسطة الذراع العسكري الأميركي، ثم الاحتلال، والتي ستتحول إلى نتيجة رئيسية، الدعوة التي تداولتها بعض الهيئات السياسية العراقية، وتحولت إلى قرار للمجلس الانتقالي في استعجال صياغة وثيقة الدستور العراقي، تحت أسس ومبررات في مقدمتها، إن ذلك سيكون البوابة الوحيدة للوصول إلى قيام حكومة عراقية حرة منتخبة، قادرة على إدارة شؤون العراق المستقل، وتقديم فترة مطالبة سلطة الاحتلال بإنهاء وجودها في البلاد، إضافة إلى أن الدستور الدائم سيكون المدخل الوحيد لبناء الدولة الديمقراطية العصرية.

ولئن كنت من الحالمين بسرعة حلول عراق ديمقراطي تعددي إلا انني لست من المؤيدين للاعتقاد بأن وضع وصياغة وثيقة (الدستور العراقي الدائم)، في ظل الظروف الحالية، سيؤدي إلى اختصار زمن الاحتلال الأميركي للعراق. فالعراقيون الذين يرهقهم ثقل الاحتلال، مثلما أرهقهم زمن الاستبداد، غير مستعدين لاستبدال ومقايضة الوقت المحسوب بالأيام والأسابيع، بمستقبل غامض مهزوز ليس فيه ضمانات عدم اختلال في بنائه النفسي والاجتماعي والسياسي، والتعرّض لهزات عنيفة مقبلة، وفتح أخاديد مدمرة لوحدة المجتمع العراقي. كما لا توجد، من حيث الواقع العملي، علاقة حتمية بين الدستور ونيل الاستقلال. فدولة العراق الأولى تأسست بلا دستور حتى عام 1926، وظل هو المرجع الأساسي لمجمل الدساتير المؤقتة التي توالت طوال الثمانين سنة الماضية. كما إن العراق الآن يعيش في ظل إحتلال أجنبي مقنن بقرار من الأمم المتحدة، ويتذكر الجميع الشعار الذي أطلقه الأميركان عشية إجتياحهم العسكري، بأنهم قدموا لتخليص العراقيين من دكتاتورية صدام حسين، وليس لاسقاط دولة العراق ومحو جميع صفاتها وملامح شخصيتها التي تكونت عبر أكثر من ثمانين عاماً، والبحث عن مكونات ومواصفات لعراق آخر وبهوية أخرى، حتى وإن كان ذلك يتناغم مع توجهات بعض القوى داخل مجلس «الحكم». وإذا كانت المشكلة الرئيسية هي عدم وجود حكومة عراقية شرعية، أو مؤتمر وطني سياسي عام يقود مهمات المرحلة الانتقالية، فإن الظرف العام الذي يعيشه العراقيون من إنعدام الأمن والإستقرار، والحرمان من الخدمات الحياتية الأساسية، إضافة إلى ما يعيشه الشارع السياسي العراقي من غليان، له مبرراته بعد سقوط الطاغية وانتشار السلاح بيد المواطنين، لا يساعد على طرح وثيقة وطنية حساسة وخطيرة هي «الدستور الدائم»، والتي تتطلب استقرار العقل السياسي وهدوء العاطفة ورجحان الحكمة، لكي لا يأتي يوم ليس ببعيد، ثم تطرح محاولات لإعادة النظر بتلك الوثيقة التاريخية. فالصعوبة تكمن في تفصيل موديل عصري ملائم لجسم العراق، يتسع لجميع إنحناءاته وتخصراته، ويحافظ على هيئته العامة من دون تشويه أو ضيق قد يمزقه في أقصر فترة. كما إن الدولة العراقية في عهدها الثاني، هي الدولة الديمقراطية المنفتحة بقوّة على متطلبات القرن الواحد والعشرين، دولة قوية بإبداع شعبها، وإصراره على التطور والنمو، ووحدته العميقة، التي تشكل ردّاً على كل بدع التخلف والتفكك الاجتماعي ومظاهر التطرف والانغلاق تكون إنموذجاً للمنطقة في ديمقراطيتها ومدنيتها وعصريتها وانفتاحها على العالم الليبرالي الديمقراطي وبما تحتويه من تعددية سياسية.

لقد دعوت في أكثر من مناسبة، خلال الأيام السابقة، وما زلت، معتقداً بإمكانية صياغة «دستور مؤقت» للعراق، يغطي الفترة الحالية الى حين إجراء الانتخابات العامة وقيام حكومة مستقلة يمكن في ظلها إنجاز وثيقة الدستور الدائم.

مهمة «الدستور المؤقت»، هي وضع الأطر القانونية والدستورية لإعادة الحياة لفعاليات تنظيم المجتمع وعلاقاته الأمنية ووحدته وأمن أفراده وحماية حريتهم الشخصية، ويحافظ على صلة العراق بمحيطه العربي والاقليمي والدولي، ويضع الأطر القانونية لحماية الثروة الوطنية العراقية، ومنع تجاوزات التصرف بها لغير مصلحة الوطن وبعلم الشعب. ويوفر سبل وأدوات بناء حكومة العراق المستقبلية الحرة المنتخبة من قبل مجلس سياسي موسع، وباختيار ومصادقة الشعب العراقي. والدستور المؤقت يمكنه رسم معالم وقواعد بناء العهد الديمقراطي الجديد وتنظيماته من خلال:

1 ـ قانون الأحزاب السياسية وضوابط إجازتها وفعالياتها، وأسس هيئات المجتمع المدني، وحقوق الانسان. وتعزيز دور المراة وحريتها في المجتمع.

2 ـ قانون حرية الصحافة ووسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية.

3 ـ قانون الانتخابات العامة وآلياتها، بدءاً من قواعدها الأساسية في الوحدات الإدارية، وعلى أساس الصوت الواحد للمواطن الواحد، صعوداً إلى البرلمان الذي ينتخب الحكومة.

4 ـ وضع أسس التعداد السكاني للعراق، ونعتقد ان أساس المواطنة هو الأكثر عصرية وحضارية وانفتاحاً على العالم من دون قيود تشده إلى الخلف.

5 ـ وضع المبادئ الأساسية للعلاقة ما بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) من دون تداخل بين مسؤولياتها.

إن التغلب على العقبة السياسية التي أوجدها واقع الاحتلال وسلطته في تعيين «مجلس الحكم الانتقالي»، يتم عبر تحقيق «المشروعية السياسية» قبل «المشروعية الشعبية»، من خلال المؤتمر الوطني الموسع الذي يضم جميع القوى والهيئات والشخصيات السياسية العراقية، القادر على إنجاز «الدستور المؤقت». وقد صرّح غالبية أعضاء «المجلس» بإمتلاكه للصلاحيات السياسية الواسعة، فهو إذن قادر على دعوة جميع القوى السياسية والشخصيات العراقية لمؤتمر وطني موسع، من دون وصاية أو إقصاء لأحد، وعلى أساس التمثيل السياسي وليس الطائفي والعرقي، لبحث وثيقة الدستور المؤقت، وانتخاب حكومة عراقية ولجنة دستورية. إن قيام «الدستور المؤقت» يؤجل فتح ملف قضايا الدولة الأساسية (الهوية القومية، علاقة الدين بالدولة، بنية النظام السياسي)، إلى مرحلة لاحقة، بعد استقلال البلد وخلاص أبنائه من سلطة الاحتلال، ليس لكونها مقيدة لحريتهم وإرادتهم في تقرير خياراتهم المستقبلية وشكل نظامهم السياسي حسب، وإنما لأن الظروف التي خلقها مناخ الاحتلال تعيق قدرة المواطن العراقي عن التعبير الحر والمتوازن والعقلاني في تقرير شأن بلده التاريخي، ويجعل سلطة الاحتلال أكثر تطابقاً مع شعارات إدارتها السياسية في واشنطن، وأكثر انفتاحاً على تأسيس علاقات عراقية أميركية إستراتيجية ومتوازنة. ولا أعتقد بأن أحداً من السياسيين العراقيين أفراداً أو جماعات يشك في ذلك. حتى عند بعض المعتقدين من داخل «المجلس الانتقالي» بأن فرصة الهيمنة السياسية الحالية، قد تضعف أو تتلاشى في المرحلة المقبلة، وبذلك تضعف فرص عكس أجنداتهم وتوجهاتهم ومعتقداتهم على وثيقة الدستور الدائم. ووثيقة «الدستور المؤقت» تتمكن من تحديد وإقرار الملامح العامة والمبادئ الأساسية للنظام الديمقراطي التعددي، والوسائل الكفيلة بتحقيقه عبر الانتخابات العامة، وتعزيز القواعد المستند عليها في حماية وحدة العراق أرضاً وشعباً، على أساس الشراكة الرئيسية للقوميتين الرئيسيتين (العربية والكردية)، مع منح الحقوق القومية للأقليات المتآخية في الوطن من التركمان والآشوريين والإيزيدية وغيرهم من الطوائف، وإعتبار الدين الاسلامي المصدر المهم في التشريعات والقوانين. والحفاظ على قيم أبناء العراق ومعتقداتهم الدينية وتنوع ثقافاتهم الفرعية، وبناء السلم الأهلي في حماية حقوق الأفراد في حرية التعبير، والمشاركة السياسية من دون تمييز عرقي أو ديني او طائفي، وعلى أساس تكافؤ الفرص، وتعزيز دور المرأة ومساواتها بالرجل من حيث الحقوق والواجبات. وإعادة القيمة الأساسية للعدالة والمساواة.

* سفير عراقي سابق

مقيم في لندن