الفلاح والحرية

TT

كان الفيلسوف اشعيا برلين يقول ان الحرية تعني لعميد في اوكسفورد، غير ما تعنيه لفلاح في مصر. والسؤال، او التساؤل، حول الحرية، ترفا او ضرورة، قائم منذ الانسان. والخلاف كذلك. وقد سمعت طبيب اسنان لبنانيا يدافع مرة عما انجزه تشاوشسكو لرومانيا. وسألت سيدة رومانية عن رأيها بالرجل، فقالت اعفني لأنني كلما تذكرت ايامه شعرت بالمرض. وهناك عدد كبير من العراقيين يتقدم الآن من المراسلين ليقول لهم انه كان يفضل ايام النظام والكهرباء والماء وعدم الفلتان الأمني الرهيب.

ألا يحق للانسان الاثنين؟ الحرية والرغيف؟ الأمن والكفاية؟ وهل كان من العدل ان يساوي راتب الأستاذ الجامعي 5 دولارات و20 دولارا، ايام كان حسين كامل المجيد هو سيد العلوم؟ لماذا نعتبر الحرية عدوة للرخاء. ولماذا لا نزال شعبا كلما ضحك يوم الخميس استدرك قائلا، اللهم نجنا من بكاء يوم الجمعة، كأنما لا حق لنا حتى في الابتسام. ولماذا لا يكون الفلاح العربي مثل الفلاح البريطاني عنده ماء ودواء وطبابة وخبز وعنده ايضا حرية؟ لماذا الحرية مرهونة بالخبز ومرهونة بتحرير فلسطين ومرهونة بالكرامة العربية؟ ولماذا نحن الأمة الوحيدة في الارض الخاضعة لقانون الطوارئ والاحكام العرفية التي ولدت بعض شعوبها تحتها وهرمت تحتها. وكمت افواهها تحتها. وجاعت بموجبها وتخلفت في ظلها وخسرت ثلاثة ارباع فلسطين في حماها؟

لماذا لا نكون مثل فنلندا: حرية وقانون وتقدم. او مثل اسبانيا التي عرفت اغنى عصورها في الحكم العربي. او مثل سنغافورة حيث الجريمة صفر وكرامة الانسان في ارقى مراتبها. لماذا كلما جاء حاكم جديد بدأ بفتح السجون. واذا هدمها فلكي يطلق المجرمين على الاوادم. ولماذا يحق للمتسلط ان يعيد النظر في اخطائه ثم يبقى حيث هو الى الابد؟ متى سنعتبر الحرية حقا موازيا للخبز وليست منة من سيد المخفر وآمر الجنود؟ والى متى سوف نظل شعوبا قاصرة في حاجة الى توجيه؟

لا نعرف ماذا سيخرج من هذا المخاض العراقي الآن. ولا الى اين سيذهب العراق من هنا. لكننا جميعا نعرف من اوصل العراق الى هنا. وعندما يكون راتب الأستاذ الجامعي 5 دولارات في الشهر في بلد قادر على استخراج 10 ملايين برميل نفط يوميا، لا بد ان هناك خللا مزمنا. يجب ان نعود نصف قرن الى الوراء على الاقل لكي نتذكر من توالى على العراق ومن تملك ثرواته واين ذهبت وفي أي حروب داخلية وخارجية. ويجب ان نعرف كيف صدئت آلاف الدبابات في بعض الدول النفطية الاخرى من دون ان تذهب قطعة منها الى فلسطين. وكم من الاموال صرفت الدول الثورية في تمويل الحروب الأهلية العربية وحركات القمع وعمليات الارهاب. ليست في هذه الارض دول كاملة ولكن هناك نسبا معقولة او مقبولة. كأن تكون الدولة غنية والمواطن مكفيا وليس همه ان ينتظر «نزول» المناديل الورقية الى الاسواق. او كأن يعرف المواطن لماذا بلده غني وعملته لا تساوي كلفة طبعها. او ان يقال له بموجب أي قانون او منطق في الارض لم يرتفع راتبه مرة واحدة في عقدين او ثلاثة. او اذا كان المواطن معدوم الحرية السياسية والاجتماعية والتجارية، فلماذا لا يعطى على الاقل الحق في ان يعرف لماذا وسادته نفط ويده خالية.

اذا لم ندخل عصر الحرية فلن نخرج من عصر التنكيل الموصوف. واذا لم نتعلم ان الحرية حق مثل الخبز فلن نعرف معنى الحياة والمشاركة والمسؤولية والأمم والمصير.

اقام النظام العراقي «جيش القدس» لكي يرعب الناس ويحشرهم في طابور لا عمل له. فهو لم يرسل جنديا واحدا الى فلسطين. ولا الى الجبهة السورية. ولا الى جنوب لبنان. لقد كانت فلسطين ذريعة لكم افواه الأساتذة الذين يُعطَون 5 دولارات في الشهر. وافواه الاطباء الذين يموت ألوف الاطفال بين أيديهم وهم لا يملكون سوى خطاب السيد الرئيس عن الانتصارات في الطريق الى فلسطين.

لو كان عندنا شيء من الحرية لكان عندنا الكثير من الخبز. ولو كان عندنا شيء من القانون لكان لدينا الكثير من الحقوق. ولو كان لدينا شيء من الحقوق لما وقفنا اذلاء على القارعة فيما العالم يعبر سبل التقدم والتطور ويتسلق قمم العلم.