ثقافة السجن والسجين والسجان

TT

العرب في معظمهم يرزحون في سجن كبير. ان في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. فلا يشترط أن يكون جميع الناس خلف (القضبان) بل يمكن إدخال القضبان إلى الرؤوس فيحبس الإنسان من الداخل كما في دائرة (اليزيدي). ويبقى المواطن يرتعش طيلة حياته فرقاً من القضبان؟

واليزيدي إذا رسمت حوله دائرة على الأرض إنحبس فيها فلم يخرج منها حتى يأتي من الخارج من يكسر له الحلقة بإصبعه. وهو لم يحبس بقضبان من الخارج بل بقضبان من داخل العقل بأوهام أشد من حديد السجون.

وهي ليست أوهام اليزيدي لوحده.

والأنظمة الثورية ذكية فهي لا تتورط في اعتقال الكثير بل ترتهن (القليل) مقابل إغلاق فم (الكل) فتصطك الأفواه رعباًَ. ومن ينقل الخوف للآخرين يصاب بالعدوى. ولكن الشعوب لا تدرك ذلك حتى يأتي موعد الزلزال.

والسجن يقوم على (التخويف) فمتى خافت الأمة من السجن الصغير دخلت جميعا السجن الكبير إلى أجل غير مسمى.

وحسب رواية (جدار بين ظلمتين) للزوجين العراقيين الجادرجي وشرارة. أو كتاب (عندما غربت الشمس) لعبد الحليم خفاجة أو رواية (تذكرة ذهاب وعودة من الجحيم) لمحمد الرايس أصبحت ثقافة الاعتقال والسجن غذاءً يومياً للمواطن العربي. فليس هناك من مواطن إلا واعتقل أو سمع عمن اعتقل فكسرت أسنانه أو خلع ظهره فخرج من غرفة التعذيب يزحف على بطنه مثل الزواحف زحفاً. أو وضع الأشهر الطويلة في غرفة لا ترى النور إذا قام اصطدم رأسه بالجدار وإذا مدّ رجله انعقفت لا يأكل في 24 ساعة سوى ثلاث (فلقات) وقطعة خبز فيبعر البراز مثل البعير بعرا.

وعندما دخلت أنا شخصياً الإفرادية للمرة الأولى في حياتي لم يدر في خلدي أن يهبط الإنسان في لحظة إلى هذا الدرك الأسفل. ولمدة أربع وخمسين ليلة كان لحدي أربع جدران كئيبة عليها بصمات العديد ممن دفن فيها حيا. كان رفيقاي بطانيتين قذرتين ووسادتي حذائي وحديقتي دورة مياه مرافقة. وأنيسي شريط الذكريات من الأحباب الذين خطفوني منهم.

وفي الواقع لا يعرف السجن إلا من دخله. ولا وحشة الانفرادية إلا من ذاقها. ولا التعذيب إلا من امتلأت مفاصله بالرعب وأمعاؤه بالقولنج وأذناه بصراخ المعذبين في ظلمة الليل مع نشاط البعوض والخفافيش وعناصر المخابرات.

ولكن كما كتب الفيلسوف الفرنسي فوكو عن وظيفة السجن والجلاد فما هي وظيفة السجن؟

السجن أسلوب اضطهادي في ثلاثة إطارات: محنة فيما يملك الإنسان من ماله وبدنه وأهله فيقطع رزق عياله. ومحنة في علاقاته الاجتماعية فيتناقل الناس الخبر وهم يرجفون. وأخيرا ضربة لأهم مقوماته النفسية: الحرية.

ونحن نعرف في الطب أن لكل جهاز وظيفة، فجهاز التنفس يقوم بتأمين المبادلات الغازية والجهاز البولي مهمته الرئيسية تنقية الدم من الشوائب. كذلك كان السجن.

وعندما تمرض العضوية تختل الوظيفة. فاللوزات مثلا في مدخل الحلق تعمل كحارس على هذه الفوهة ولكن قد تنقلب كما في وظيفة المخابرات في الأنظمة الاستبدادية فتلتهب وتبث الذيافين إلى الجسم وتعض القلب وتعطب الكلية وتنخر المفاصل بالروماتزم وتضرب الجهاز العصبي فيرقص المريض رقصا. وتنقلب (وظيفة) جهاز إلى جهاز رعب كما في المثل (حاميها حراميها)؟

والمجتمع كائن حيوي ووظيفة السجن في المجتمعات الاستبدادية هي تعقيم المجتمع من الفكر النقدي. كما فعل جهاز الستازي في ألمانيا الشرقية فتحول ثلث الشعب الألماني إلى مخابرات وحفظت عينات من لعاب ورائحة كل مشبوه سياسيا. وتم تسليم ثلاثين ألف معتقل سياسي إلى ألمانيا الغربية مقابل 3,6 مليار مارك وظفت لمراقبة 18 مليون مواطن في عشرين ألف غرفة تنصت.

إن آثار السجن متعددة، فهي أولاً تكسر العلاقة بين المناضل ومثله الأعلى طالما كان الفكر يحمل كل هذا الشقاء. والنظام لا تهمه التصفية الجسدية بل تصفية مخ المعارض من الأفكار الضارة. والتوبة النصوح عما بدر منه والتعهد الصارم على عدم العودة إلى هذا الذنب مستقبلا بأي لون من النقد. والتكفل بأن يتابع حياته على شكل نبات صحراوي أو زاحف بري.

وعندما تتم الاعتقالات فليس لذاتها بل لإرهاب الآخرين من أجل قطع سلسلة انتشار الأفكار. وعندما يتجرأ شاب فيدخل الأرض الحرام في الانترنيت ويأكل من شجرة المعرفة المحرمة يجب طرده من جنة المخابرات ويهبط إلى السجن. في إشارة لكل سكان المنطقة التي تم اعتقال الشاب منها أن يتخلص كل إنسان من الكمبيوتر عنده. وأن النجاة هي في التحول إلى عالم الأميين فيتسطح الدماغ مثل حدوة الحصان تسطيحا. وأن العلم خطير والوعي مصيره الزنازين الإفرادية. كما فعل عسكر بورما مع المناضلة (آونج سان سو كاي Aung San Suu Kyi) فحجزوها في إفرادية وغيروا اسم البلد إلى ميانمار وقالوا عن الطاهرة حاملة جائزة نوبل للسلام إنها عاهرة للغرب؟.

والاعتقالات ثالثا تهدف إلى وضع اليد على العنق المغذي والرأس المفكر. كما تفعل اللبوة حينما تصطاد الغزال فهي تطبق على العنق فتخنق الضحية. وتقطع العلاقة بين المعارضة والأمة كما يقطع الرأس عن الجسد فتقتل الأمة قتلا وتصبح جاهزة لأي احتلال خارجي كما في قصة بعث العراق.

والنظام يقوم باعتقالات محدودة محددة بالخلايا العصبية في أي تنظيم حرصا على تطهير المجتمع من مقلقي النوم العام بأشد من فيروس السارز. كي يسود الصمت المجتمع مثل معهد الطرشان والخرسان ويتم الحديث بالإشارات فلا يسمع شيء ولو كان طنين نحلة أو دبيب نملة. ويستتب الأمن في وطن غادره الأحياء فلم تبق سوى فوهات قبور تبلع وحفار قبور ينتظر.

مع هذا فيمكن تحطيم السجن بثلاث: القاعدة الأولى تقول إن أي نظام لا يستطيع أن يعتقل كل الأمة ولا عشرها بل يحرص على اعتقال (أقل عدد ممكن) لتحقيق (أكبر خوف ممكن) من خلال تسريب المعلومات عن التعذيب والإهانات وأن النظام قاهر فوق عباده يشبه آلهة الأولمب تنفث بالنار على عباد مسحوقين سحقأ.

ولكن ما حدث في ألمانيا الشرقية أن أعتى جهاز استخبارات أصبح رمادا تذروه الرياح لأنه ضد الطبيعة الإنسانية.

والقاعدة الثانية تقول إن اعتقال أو قتل الناس في الأعمال المسلحة سهل ومبرر وفي جو الفتن يمكن اعتقال عشرات الآلاف ولا يفتح أحد فمه بالاعتراض.

ولكن هذه القاعدة يمكن خرقها بالمقاومة المدنية بأن نحول المقاومة إلى فكرية فيعتقل الإنسان من أجل رأيه وليس لأنه قام بالتفجيرات. وهو أسلوب أسهل وأكثر بركة في تحريك الضمائر وتجنيد معظم الأمة. وليس ثلة من الشباب القساة المتعصبين.

وهنا في مثل هذه الحالة لا يقتل الناس بسهولة بل يصبح المعتقلون مصدر (عسرة هضم) للنظام يفاوضهم للتخلص منهم. وفي مثل هذه الحالة ينقلب القانون إلى نقيضه ويتأثر النظام عكساً مع ارتفاع عدد المعتقلين.

وثالثا: إن هذا يدفعنا إلى طرح (نظرية تفجير السجن من داخله) فلا نطالب بالإفراج عن معتقلي الرأي بل نورط النظام بمزيد من الاعتقالات لتفجير السجن من داخله كما يحصل للكرية الحمراء حينما تنفجر بمزيد من إدخال الماء إلى داخلها. وهنا يصبح السجن مكان لقاء وفرها النظام للمعارضة في دورة أعمال مستمرة مع الإقامة والطعام والشراب بالمجان.

وهو الذي مارسه غاندي أو جواهر لال نهرو فخرج من السجن إلى الرئاسة.

وإلى حين تشكل وعي مقدس من هذا النوع تبقى الساحة حكرا على المجرمين والمجانين والانتحاريين والإرهابيين.

في النقاش الذي دار بين الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) وتلميذه متى يكون الإنسان حرا؟ سأله الفيلسوف: هل يستطيع أحد أن يكرهك على تصديق ما ليس بصدق؟ التلميذ: لا. الفيلسوف: فهل يستطيع أحد أن يكرهك على فعل ما لا تعتقده؟ التلميذ: نعم. الفيلسوف: وكيف ذلك؟ التلميذ: إذا هددني بالموت أو الحبس؟ الفيلسوف: فإذا لم تخش من السجن أو الموت؟ التلميذ: لا يستطيع. الفيلسوف: أنت حر حينئذ.