أمريكا في الخطاب العربي: الوحش المطلق أم نمر الورق؟

TT

رغم كثرة ما يكتب في البلاد العربية عن الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصًا في الآونة الأخيرة، يعجب المرء من قصور وضحالة المعلومات والمقاربات حول هذا البلد الكبير الذي دخل لاعبًا أساسيًا إلى دائرتنا الإقليمية منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

ولا أعني هنا تقويم الموقف الأمريكي من القضايا العربية، وعلى الأخص القضية الفلسطينية ، فليس الأمر مدار اختلاف، إذ أن خيار الدعم المتزايد الذي تقدمه واشنطن لحليفها الدولي الأول (إسرائيل) معروف لدى الجميع، ويشكل أحد الثوابت الصارمة في السياسة الشرق أوسطية الأمريكية، حتى ولو كان الفكر السياسي العربي ما زال منذ عقود طويلة عاجزًا عن فهم سر هذا التحالف وعقدته من دون أن يخرج عن السؤال المألوف: أيهما يوظف الآخر ويتحكم فيه: إسرائيل من خلال لوبيها اليهودي المهيمن على مراكز صنع القرار، أم الولايات المتحدة التي تستخدم إسرائيل وكيلا إقليميًا لها توجهه أينما شاءت لخدمة مصالحها.

ومن الحقائق المؤسفة أن جامعاتنا ومراكز دراساتنا تخلو من إطار علمي حقيقي وفاعل لدراسة المجتمع الأمريكي وتحليل المفاهيم والرؤى الاستراتيجية الأمريكية، كما أن كتّابنا ومفكرينا الذين يكتبون حول استراتيجيات ومواقف الولايات المتحدة لا يتعدون في الغالب استنساخ بعض التحليلات والمقالات الواردة في مجلة «فورين آفيرز»، وأحيانًا أعمدة صحيفتي «واشطن بوست» و«نيويورك تايمز» التي يقدمونها بحس اكتشافي مثير مخططات ومقاربات جيوسياسية بعيدة المدى، في حين أنها لا تتجاوز في الغالب حيز الرأي الشخصي الحر في مجتمع شديد التنوع، واسع الحرية.

واعتقادي أن جانبًا وافرًا من إخفاقنا الدبلوماسي في التعامل مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، هو هذا الجهل الحاد بالنسق الأمريكي الذي يشكل منظومة بشرية وثقافية واقتصادية واستراتيجية فريدة من مختلف الأوجه.

ومع تحول الولايات المتحدة بعد احتلالها للعراق إلى طرف إقليمي له حضوره العسكري في أكثر من عشرة بلدان عربية، قد تنضاف إليها عاجلا أقطار أخرى (مثل ما يتردد من إقامة قواعد عسكرية في بعض بلدان شمال إفريقيا)، أضحى من الملح سد هذه الثغرة المعرفية والبحثية التي تترك أثرها السلبي المكين على الرؤية الاستراتيجية العربية.

ومن الاشكالات التي يتعين حسمها في هذا السياق تحديد منزلة الولايات المتحدة داخل النظام الدولي، باعتبار ان الفكر السياسي العربي الذي تحركه في الغالب النوازع السياسية الآنية، يتأرجح بين اعتبار أمريكا امبراطورية العصر الجديد المتحكمة في شؤون العالم والممسكة بخيوط الرهان الاستراتيجي الدولي في أدق تفصيلاته، لا تقيم شان للنظم الدولية التي ساهمت في إنشائها ولا لمعايير القانون الدولي الذي يحكم العلاقات بين الأمم، أو بين النظر إليها بصفتها امبراطورية مفلسة، معرضة للانيهار والتفكك، لن تصمد طويلا أمام منافسة الأقطاب الدولية الصاعدة مثل أوروبا واليابان والصين.

والواقع أن هذا الحوار ليس حوارًا عربيًا صرفًا، بل نلمسه قائمًا داخل الأوساط الفكرية والسياسية الأمريكية نفسها وفي الأدبيات الأوروبية، بيد أنه يتخذ مسارب أخرى في ساحة عربية محبطة وغاضبة لها كامل المشروعية في التعبير عن سخطها ونفورها من سياسات ومواقف تلك الدولة الكبرى التي تتخذ مواقف مناوئة للعرب في قضاياهم المصيرية.

فالمبالغة في تقدير قوة وتحكم العملاق الأمريكي تبرر العجز العربي والهزائم المتتالية، كما تبرر المواقف الواقعية اليائسة والخانعة. والإفراط في تقدير نقاط الضعف في النسق الأمريكي يغذي الحنين النضالي الطوبائي ويعوض القصور في الفاعلية ويسند الاتجاهات الراديكالية.

وحقيقة الأمر أن هذا الحوار حول منزلة أمريكا في النظام الدولي وما يترتب على هذه المنزلة من علاقة الولايات المتحدة بمحيطها العالمي يمثل مقومًا أساسيًا من مقومات النموذج الأمريكي الذي قام على ازدواجية المجتمع الرسالي النموذجي، و«القلعة المعزولة المكتفية بذاتها».

وكما يبين «بيار هازنار» فإنه لا سبيل للفصل بين رؤية أمريكا للعالم ورؤيتها لذاتها، فالولايات المتحدة حددت دومًا صورتها بحسب علاقتها بالعالم وحددت علاقتها بالعالم من منطلق صورتها عن نفسها.

فبناة الأمة الأمريكية، وكذلك زعماؤها من بعد، آمنوا دومًا بخصوصية ومكانة بلادهم من حيث هي أرض ميعاد، تحتضن المضطهدين والمظلومين وتوفر لهم الأمن والأمان، وتنشر قيم الخير والحرية والعدل في العالم أجمعه. ولم يشذ عن هذه الرؤية سوى عدد قليل من السياسيين الأمريكيين مثل روزفلت ونيكسون وكيسنجر الذين اعتمدوا الرؤية الواقعية في تحديد علاقة الولايات المتحدة بالعالم بصفتها إحدى القوى الدولية الفاعلة في فضاء متعدد المصالح القومية.

صحيح أن نهاية الحرب الباردة بانتصار أمريكا المدوي في الصراع الأيديولوجي والإستراتيجي السابق قد أضفت أبعادًا جديدة على هذا الحوار، وولدت معطيات جديدة حاسمة في بلورة الرؤية الاستراتيجية الأمريكية، بيد أن استكناه التصورات والبراديغمات التي قدمها الفكر الأمريكي في السنوات العشر الأخيرة يبين أن عمق التوجه لم يتغير، حتى ولو جرى التعبير عنه بصيغ نظرية جديدة (اعتماد العولمة مشروعًا كونيًا جديدًا ـ التبشير بالقيم الحضارية الغربية في عصر صدام الثقافات…).

فنزعة التميز الأمريكي يمكن أن تتخذ صيغتين غير متعارضين في الجوهر، وإن اختلفتا في النتائج العملية، هما إما شكل النموذج الفريد الذي يتعين حفظه وحمايته، أو شكل الحرب المقدسة لنشر قيم النموذج الأمريكي السامية.

ومن المفارقات الظاهرة أن الإدارة المحافظة الحالية الأكثر انغلاقًا في الخصوصية من بين كل الإدارات التي حكمت أمريكا، هي في الآن نفسه أكثرها انشغالا بشؤون العالم وتدخلا فيها، من منطلق هاجس حماية هذا «النموذج المثالي المحاصر من كل جهة بالأعداء المتوحشين».

ومن ثم ندرك التحالف الوثيق القائم راهنًا بين التيار المحافظ التقليدي المتسم بالانعزالية والميل للانكفاء على خصوصية وتفرد النموذج الأمريكي والتيار المحافظ الجديد الميال لنشر وبث قيم هذا النموذج شرطا أوحد لحماية نمط الحياة الأمريكي في عالم مفتوح وموحد.

وليس من همنا في هذا الحيز تحديد مدى واقعية ونجاعة هذا التوجه الاستراتيجي الذي تعترضه عقبات جوهرية معروفة، تتمحور حول طبيعة النظام الدولي المعقدة، حيث لم تحسم بعد العلاقة المركبة والملتبسة بين العناصر المكونة له في مستويات الفاعلين والنظم الاقليمية والديناميكيات الاقتصادية والمجتمعية المتولدة عن انعكاسات العولمة، إيجابًا وسلبًا، مما سنعود إلى إجلائه لاحقًا.

[email protected]