... وخريطة لـ «حروب الفلسطينيين»!

TT

يستحق الشعب الفلسطيني الذي يُذبح منذ نصف قرن، قيادة واقعية وعاقلة ومسؤولة تستطيع ان تعبر به أرخبيل «الصخور القاتلة» وخصوصاً في هذه المرحلة الحاسمة والدقيقة من تاريخ القضية.

يستحق الشعب الفلسطيني الذي قدم ويقدم تضحيات تفوق الاحتمال والتصوّر، قيادة تملك شيئين أساسيين: أقداماً تقف على الأرض وتحسن اختيار طبيعة الأرض، وعقولاً تفرز سياسات ومواقف تلائم ضرورة المرحلة من دون أن تتخلى عن ضرورة التمسّك بالحقوق الوطنية.

لكن الشعب الفلسطيني يُقصف ثلاث مرات لا مرة واحدة. إنه يقصف بالصواريخ والقذائف الإسرائيلية التي وصلت إلى حد تنظيم قوائم أسمية بـِ «الطرائد البشرية» المطلوب اصطيادها، وقد أشارت «الشرق الأوسط» يوم الخميس الماضي إلى أن آخر هذه القوائم تضم 100 شخصية قيادية من كل الأجنحة.

وهو يُقصف ثانية بملامح الصراع الآخذة في التزايد والاتساع بين حكومة محمود عباس والمنظمات الفلسطينية، والتي يمكن في ظل استمرار الضغوط الأميركية والإسرائيلية أن تتحول صراعاً دامياً بين الحكومة و«حماس» و«الجهاد»، على خلفية وقف العمليات وتفكيك الأذرع العسكرية لهذه المنظمات إنفاذاً لشعار: «سلطة واحدة سلاح واحد».

ويُقصف الفلسطينيون مرة ثالثة والأمر هنا أدهى وأخطر وأكثر إيلاماً، عبر الصراع الجذري العنيف بين عناصر السلطة نفسها، في ما بدا حتى الآن، وكأنه صراع على المناصب والمكاسب والغنائم، يتّخذ شكل تنافس شرس بين عرفات وأبو مازن على إقناع الأميركيين والإسرائيليين بـِ «أفضلية تسليم البضاعة».

هكذا ومن دون أي تردد أو مسايرة لآلام وجروح الشعب الفلسطيني، من يسلم «البضاعة» أفضل: ياسر عرفات أم محمود عباس؟

لا داعي طبعاً للسؤال عن الأفضل ففي الاثنين «البركة» كما يقال، لكن من الضروري أن نتذكر أن «البضاعة» تعني تنفيذ المستلزمات التي يمليها بند «وقف أعمال العنف وتفكيك المنظمات ونزع سلاحها».

لقد كان الأمر مثيراً تماماً مساء الأربعاء الماضي، ففي حين انتظر الناس بيان حكومة أبو مازن، التي ذهبت إلى الاجتماع في غزة للبحث في مسألة توحيد الأجهزة الأمنية ونزع سلاحها ومنع اطلاق القذائف على إسرائيل والسعي إلى تجديد الهدنة، صدرت تصريحات للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، تقول انه على استعداد لاتخاذ إجراءات ضد «حماس» و«الجهاد» إذا التزمت إسرائيل وقف عمليات الاغتيال والاعتداءات.

لقد بدا هذا الأمر بمثابة استدراج عروض صريح، لإعادة ترتيب الواجهة السياسية الفلسطينية وفق الرؤية الأميركية ـ الإسرائيلية، أي «إعادة اعتبار» عرفات صاحب القرار الوحيد بعدما كانت المرحلة الأخيرة قد شهدت سعياً محموماً لدفعه إلى الظل.

والمضحك المبكي أن حكومة أبو مازن اتّخذت قراراً بـِ «توحيد الأجهزة الأمنية» تحت إمرة وزارة الداخلية أي عملياً تحت إمرة محمد دحلان الذي يهوى جورج بوش تسميته The young man. وقد جاء هذا بعدما كان عرفات قد وضع الأجهزة التابعة له تحت إمرة جبريل الرجوب الخصم المباشر لدحلان.

وفي غضون ذلك كان الصراع يتفجر بين فاروق القدومي وأبو مازن على خلفية اعطاء نبيل شعث مسؤوليات المرجعية الديبلوماسية في الحكومة الفلسطينية، وقت يرى «أبو اللطف» أنه «وزير خارجية فلسطين» منذ ربع قرن ويزيد.

ولكن إلى أين من هنا؟

ليس من السهل إيجاد جواب واضح ومحدد، فالتداخل الصراعي المستشري بين الفلسطينيين أنفسهم، ينذر فعلاً بالانزلاق إلى صراع داخلي، قد يتحول حرباً أهلية، رغم كل التطمينات التي تتوالى على ألسن الجميع بأن الفلسطينيين لن ينجروا إلى هذا الفخ.

ولعل من المثير للأحزان أن يكون الفلسطينيون الآن، في حاجة إلى «خريطة طريق» خاصة بهم تنظم العلاقة بين تياراتهم وأجنحتهم المتصارعة وتمنعهم من الانخراط في حرب أهلية.

المثير أكثر للأحزان، أن ليس هناك «رباعية عربية» تساعد في وضع هذه «الخريطة»، ربما لأن الدول العربية ضيّعت الاتجاهات وفقدت عناصر الجاذبية، إلى درجة أن الجامعة العربية السعيدة لا تملك تصوراً واضحاً وجامعاً، حيال أي من الملفات والمسائل المشتعلة من فلسطين إلى العراق.

بلى انها تملك مثلنا جميعاً عقلاً من خشب ولغة من خشب!