خير لا بدّ منه!

TT

في السنوات الأخيرة وفي إطار ترميم أوضاع تطلّ على الفناء والهاوية، سعت بعض النخب السياسيّة إلى ابتكار وصفات للعلاج السياسي تتراوح بين الوئام والحوار والمصالحة والوفاق الوطني.

وبان في بادئ الأمر أنّ النيّة صادقة وأنّ تلك النخب السياسيّة ترغب حقا في تشريك كافة الحساسيّات الموجودة وصياغة علاقة جديدة معها. وتبعا لذلك فقد تمّ فهم الوئام والحوار والوفاق الوطني بطرق مختلفة، وكأن لهذه المفاهيم تفاسير متضاربة وقابليّة لتأويلات متنافرة.

تعتقد النخب السياسيّة أنّ الوئام أو الوفاق أو الحوار يتمثل في شحن المواليين الرسميين للنظام الحاكم وفي فتح المنتديات لتبادل وجهات النظر أثناء شرب فناجين الشاي.

وكي تبرهن تلك النخب على حسن نواياها، كثيرا ما نسمع بمنح التأشيرة لحزب سياسي جديد أو إطلاق سراح سجناء رأي أو إعلان العزم على تحسين الموقف القانوني للمرأة.. وهكذا دوليك.

وفي مقابل هذا الفهم، يذهب في ذهن أصحاب العقول السوية والمتمكنين من معاني المفاهيم اللغويّة والاصطلاحيّة أنّ الوئام والوفاق والحوار، تفسير أقل اختزالا لمفهوم الديمقراطية، وتنتظر بالتالي بعض الأطراف أن يتمّ تشريكها في واقع جديد يأخذ بعين الاعتبار أخطاء الماضي التي من أهمّها كارثة الإقصاء. إلا أنه بالتمعن في مفهوم النخب السياسيّة للوطنيّة وفي تصوّرها للحوار والوئام، سنكتشف أن المبادرة حدث شكلي عابر، يتفاعل مع الضغوطات بحنكة لا تغني من جوع.

فالوطني حسب النخب الحاكمة هو من يلتف حول النظام الحاكم في بلده ومن يصفق ومن لا ينظر إلا لما هو وردي ومشرق ويمنع بصره من تمعن الغيوم، ويديه من تحسس الثغرات والفخاخ. وهي أفكار لطالما مثلت سبب الهلاك السياسي والاجتماعي وخلقت مفهوما ضيقا ومنحرفا للوطنيّة، إلى درجة أنّه تمّ التعامل مع بعض الأصوات الخارجة عن السرب على أساس أنها خائنة للوطن وأنها تفتقد الغيرة الوطنية بما أنها لا تجد صعوبة في جلد الوطن.

وطبعا لهذه الأفكار أسس وسياق تاريخي حيث مارست أغلب النخب السياسيّة في دول الاستقلالات العربيّة حالة من ضبط الحريات، ورأت ساعتها أن الديمقراطية المرادف الموضوعي للفوضى ورتبت طبقا لذلك قائمة أولويات تمثلت في التنمية الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وآثرت ترك الديمقراطية السياسيّة في مرحلة لاحقة غير محددة التوقيت ولا الأوان.

وإذا ما تمعنا في طبيعة هذا الخيار قد نقبض على معقوليّة ما تكتنفه، خاصّة أن كثيرا من المفكرين السياسيين، من بينهم موريس دوفارجي، صاغوا نظريات في كيفية بناء الدولة، وركزوا على أهميّة الحزب الواحد في الطور الأوّل لبناء الدولة المستقلّة، إضافة إلى أنّ الخروج من حالة الاستعمار ساعد النخب السياسيّة على فرض سياسة الحزب الواحد وجعل مختلف المنظمّات والاتحادات من عمال وفلاحين وتجار يساهمون في بلورة ما يسمى بالجبهة الوطنيّة. وبما أنّ تلك النخب السياسيّة على اختلافها، كانت تمتلك المشروعيّة السياسيّة فقد التفت حولها مختلف القوى الاجتماعيّة وراهنت على تحقيق توقعاتها وإشباعها.

والمشكل الحاصل اليوم هو أنّه بعد فشل نظريّة الحزب الواحد وتآكل مشروعيّة النخب السياسيّة وافتقادها لمضامين سياسية جديدة وجادة، أصبحنا نلحظ ظهور تعبيرات جديّة تختفي وراء معانيها نظريّة حكم الواحد والرأي الواحد والسلطة الواحدة، وهي تعبيرات تمارس التعبئة وتحاول استعادة جبهة وطنيّة على شاكلة الجبهات التي تكوّنت في بداية الاستقلال من دون انتباه إلى أدنى المتغيّرات الحاصلة، من ذلك أن مفهوم الجبهة قد طرأت عليه تطورات يظهر أن النخب السياسيّة الحاكمة لم تستوعبها بعد.

فالجبهة الوطنيّة فضاء لا يفرّق بين المواطنين على أساس الولاء للأنظمة الحاكمة بل جبهة تستوعب اليمين واليسار والمستقلين. وتستمد الجبهة الحقيقيّة قوتّها من هذه الاختلافات وثراءها من المواقف الناقدة والمنتقدة، وهي جبهة تترفع عن المزايدات التي أهلكت مشاريع الجبهات السابقة.

إضافة إلى أنّ تطبيق سياسة الحزب الواحد بشكل أدى إلى تحقيق سياسة الحكم الفرداني قد أنتج ثقافة سياسية واجتماعية تتصف بالانحطاط، فظهرت ظواهر الزبونية والرشوة، الشيء الذي غلب قيم الرداءة التي أطاحت بقيم الكفاءة في مجتمعاتنا.

وتحاول اليوم هذه الثقافة أن تعرقل فرص خلق جبهات وطنيّة فاعلة وحقيقيّة باختلافها وبوطنيّتها، إذ أن المستفيدين من تلك الثقافة شكلوا مصالح معينة أصبح استمرارها مرهونا باستمرار تلك الثقافة ذاتها.

ومن جهة أخرى نلحظ أن الأداء السياسي العربي والإسلامي عاش بعد أقل من ثلاثين سنة حالة من القطيعة تبرهن على أن العقل السياسي عاجز عن ممارسة النقد الذاتي وأيضا عن الوفاء لأطروحاته.

والمقصود بالوفاء بالتعهدات هو أن الحجج التي تم تقديمها للإقناع بضرورة اتباع سياسة الحزب الواحد حجج فقدت مدة صلوحيتها، أي أن ظهور أجيال متعلمة وتطور عدد حاملي الشهادات الجامعية، والخروج من حالات التخلف الظاهرة على الأقل، كلها مظاهر من شأنها أن تفكك مضمون تلك الحجج وبالتالي القضاء على ثقافة الحكم الفردي والرأي الواحد.

والمتأمل في هذه النقطة سيرى أن النخب السياسية قد انخرطت في مشاريع اجتماعية قوية كالتعليم والصحة من دون أن تكون قادرة على استيعاب ثمرات تلك المشاريع والتأقلم معها، أي أنها أسست المدارس وخصصت ميزانيات ضخمة للتعليم وهي غير مستعدة للتعامل مع مواطنين متعلمين يطمحون إلى حياة أفضل وإلى مواطنة تشبع إنسانيتهم، وهي نقطة تشكل لبّ المفارقة التي نعيشها اليوم.

إن ما يجب أن تستوعبه النخب السياسية الحاليّة هو أن شعوبها تطالب بالتنفس عبر التعبير الحر وبالمشاركة في تقرير المصير من خلال الانتخابات وحقوق المواطنة.

لذلك فإن الدخول في تجارب الحوار والوئام والوفاق، ـ وهي كما نلاحظ تجارب ذات أوصاف مغرية ومشجعة ـ لن تعيش طويلا إذا ما تبين أنها جزء من اللعبة السياسية، تلك اللعبة التي تفتقد الجدية لتصبح لعبة مقبولة ونافعة. إضافة إلى أن حالة التآكل التي تعيشها النخب السياسية الحاكمة سيزداد عريها لو اكتشف المعنيون بالحوار وبالوئام وبالوفاق أنها مجرد تنويحات لغوية لفعل سياسي لم يتبدل.

ومعنى ذلك أن الخيار الأذكى والأقرب إلى الواقع الاجتماعي وأيضا إلى الواقعية السياسية هو التعاطي بجدية وبإيمان حقيقي مع خيارات الحوار والوئام والوفاق لأنها إذا ما توفرت لها الإرادة السياسية الحقيقية والقناعات المتأكدة ستصبح المضمون السياسي الجديد لتلك النخب، وستؤسس لعلاقة جديدة بين مختلف القوى الوطنية الممثلة للمجتمع. إن إشباع التوقعات الاجتماعية والاعتقاد بقوة بضرورة دوران النخب وبالمشاركة في بناء الوطن وتحقيق التنمية، كل ذلك يمثل السبيل الوحيدة لاستبعاد أشباح الفشل المتكررة.

لقد أثبتت تجارب الشعوب العربية مع الجبهة ذات اللون الواحد والفكرة الواحدة والصوت الواحد أنها جبهة فقيرة تتضارب مع خصائص التقدم والإبداع التي تتطلب بدورها فسيفساء وحدائق من الأفكار والمواقف والمزج بين الأصناف المختلفة. فالحوار حول مستقبل الشعوب وفي ميادين حيوية مهوسة بملايين الأفواه والعقول والأجساد، من العبث أن يكون حوارا ضيقا على شاكلة المونولوج وكأنه شأن ذاتي وفردي خاص جدا.

وحتى التركيز والتوحيد أظهرت التجارب أنهما عمليتان تقومان على التنوع ومدى القدرة على جمع الشتات في شمل واحد لا يقضي على شتاته الداخلي والإيجابي. كما أن الحوار بالمعنى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي ليس شأن شفوي صرف بل أنه لا يتأتى ولا يتحقق بصفة جدية إلا إذا تمت ممارسته في مختلف أشكال الأداء الاجتماعية والسياسية، بمعنى أن تعدد الأحزاب هو الترجمة الفعلية للحوار، إضافة إلى أن إرساء الحوار في الصحف يتجلى في تجسيد الحوار لا في التحاور حول الحوار كما يحصل اليوم!

إننا أمام تحد وحده سيكشف مدى إرادتنا في التحول إلى أحرار، وهو التحدي الذي جعل ذلك الشر الذي لا بد منه، خيرا لا بد منه، أي أنّه لا بد من المصالحة مع الخير وتسميته باسمه والكف عن المغالطات المتوارثة التي انتهى عمرها الافتراضي والوهمي.

[email protected]