لا جزائر ولا يوغوسلافيا

TT

عرفت البشرية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حروباً اقل، بمعنى التقاتل بين الدول، ومجازر ومقاتل اكثر، بمعنى التحارب بين الشعوب، وضمن الحدود وليس عبرها، وفي هذه الحقبة ايضاً وقعت معظم الحروب التقليدية في نصف القرن الماضي ضمن الشرق الاوسط وكذلك معظم الحروب الاخرى، اي الحروب الاهلية التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الناس، والتي انتهت الى مصالحات قبلية باردة ومعانقات امام المصورين. وكانت اسوأ هذه الحروب واكثرها شراسة وهمجية وعدوانية في اليمن والاردن ولبنان. ووقعت حروب همجية في بلدان اقل تقدماً وعراقة وثقافة ومثاليات او مُثل، كحرب رواندا وليبيريا وساحل العاج. وقامت حرب اكثر وحشية في بلدان اكثر تقدما وعلوماً وصناعات، كحرب يوغوسلافيا، حيث تقاتل ابناء البلد الواحد والحضارة الواحدة وتذابحوا لاسباب ثأرية او دينية او قومية خرقاء. وكما ادت حرب يوغوسلافيا الى قيام دول جديدة من حضن الدولة السابقة نفسها، هكذا حدث في تيمور الشرقية، وفي تشيكوسلوفاكيا (الانفصال المخملي بلا ضربة كف) وبقيت البانيا موحدة برغم حربها. ولكن في السبعينات ولدت بنغلادش من حرب الهند وباكستان.

غير ان العراق تحرك في اتجاهات الحرب التقليدية عبر الحدود وفي اتجاه الحرب الداخلية، اكثر من اي دولة اخرى. من ايران الى الاكراد الى الكويت الى الجنوب ومن ثم الى ما هو فيه الآن. كل الحروب التي اشرنا اليها، داخلية او عبر الحدود، لعب فيها العامل الخارجي دوراً اساسياً. وكان الاتحاد السوفياتي حاضراً في كل حروب الواسطة التي خاضتها اميركا، من انغولا الى لبنان. فمن يخوض هذه الحرب ضد اميركا في العراق اليوم؟ من هي القوة او القوى التي قررت ان تهزم اميركا في العراق؟ دعنا لا نخدع انفسنا بالعناوين الدارجة «كالمقاومة العراقية» و«انصار النظام السابق» و«فلول الصداميين». ثمة فارق «تقني» هائل، بين الذين يرفضون الاحتلال الاميركي بدافع وطني او قومي، وبين الذين ينظمون الاعمال العسكرية، او يصدرون الامر (داعيك من التنفيذ) باغتيال شخصية مثل السيد محمد باقر الحكيم، الذي كان على علاقة حسنة او ممتازة مع ايران (التي اعلنت الحداد الرسمي عليه ثلاثة ايام كرئيس دولة) ومع سوريا، ذات الهاجس الاكبر والاعمق بما يحدث في العراق، لالف سبب والف، اهمها ان اميركا التي طلبت رأس «البعث» في العراق ليس ما يمنعها ان تطلبه في سوريا.

بعد حرب يوغوسلافيا اصدر المثقفون السوريون بياناً طرحوا فيه عدداً من المطالب المعروفة. وكان ردّ الاستاذ عبد الحليم خدام يومها، وهو اقدم واعرق السياسيين واقربهم الى الرئيس الراحل حافظ الاسد، ان سوريا لا تريد ان تتحول الى جزائر اخرى ولا الى يوغوسلافيا اخرى.

نحن امام ماذا؟ انني ارتعد كلما فكّرت في الامر وكلما تذكرت كلام السياسي المخضرم عبد الحليم خدام. ولسنا نعرف الى ماذا سيفضي هذا الاخفاق الاميركي المتزايد واين سيضع العراق. لقد كان السيد محمد باقر الحكيم اهم شخصية شيعية في العراق بسبب مكانته الدينية ومركزه العائلي وسيرة والده وتاريخ عائلته التي قتل النظام ثلاثة رجال منها. وكان له امتداد ديني وعائلي في طهران وفي لبنان واحترام في سوريا. وكان يدعو الى عدم تفويت الفرصة على الشيعة هذه المرة، بعدما فاتهم في المرة الماضية، اي العام 1923، الدخول في تركيبة النظام.

لذلك لم يكن اغتيال الحكيم مثل اغتيال الخوئي سياسياً. لكن العملية مثل سابقتها، تعمدت ان تهدر كل شيء، من محرمات ومكانات، وليس الدم وحده. كما تعمدت ان تهدر اكبر قدر ممكن من الدماء لفتح الباب امام دماء اخرى. وتعمدت ايضاً ان يحدث القتل المشابه في «الصحن الحيدري» حيث يفترض ان يشعر الناس انها آمنة.