الحكم «بالإعاشة»

TT

تعيد اميركا، على نحو واضح، صياغة العراق وتركيبه وتشكيله، في الجوهر وفي الشكل. وتحاول ان تقيم مكان النظام السابق والحكم الماضي، نظاماً طائفياً يدعي التوزيع الديني والعرقي باسم الديموقراطية. ولذلك اخذ ينفك من حولها عدد من الحلفاء السابقين، وخصوصاً ورثة الملكية الذين يتحدثون الآن عن «الاحتلال» الاميركي ووجوب انسحابه بعدما كانوا يشكلون جزءاً اساسياً من «التحالف» او بالاحرى المعارضة التي رافقته الى العراق.

لقد تحول العراق الى ساحة تجارب لعدد من القوى الداخلية والخارجية، اولها طبعا، القوة الاميركية. من هنا مثلا،ً ان قادة للشيعة يستهدفون في النجف بينما تزداد حصتهم او تضاعف في مجلس الحكم ومن ثم في الحكومة. ولا بد ان فريقاً سياسياً ما ـ او اكثر ـ يقوم بدور هنا او هناك. وبداعي الديموقراطية تطعَّمُ مؤسسات الحكم الجديدة بالأقليات العرقية والدينية المعروفة، لكن حصتها في النظام السابق كانت اكبر مما هي الآن في عملية توزيع تشبه الاعاشة ما بين المتخمين والمحتاجين. ولا نعرف الى الآن كيف تتم عمليات التوزيع في الجيش والشرطة والتربية وسواها. وما هي القواعد المعتمدة. وقد نشرت الصحف امس صور رجال الشرطة «الجدد» في بغداد. وايضاً لا يعرف احدنا كيف يمكن تخريج ضباط وانفار في سلك عسكري خلال اربعة اشهر. ومن اي صفوف جيء بهؤلاء.

وقد اقرت اميركا أخيراً بأنه لا بد ان يكون للدول الاخرى دور في اعادة الامن الى العراق. لكن ذلك لن يكون التراجع الاخير. وسوف نراها قريباً عائدة الى الامم المتحدة لكي تطلب منها المظلة الكاملة. ولن يقتصر الامر على البولنديين او بعض الاوروبيين الشرقيين الذين اكتشفهم المستر رامسفيلد بديلاً عن «القارة الهرمة» اي فرنسا والمانيا. ذلك ان المسألة تحتاج الى «العالم» كله من اجل اعادة العراق الى الحياة العادية.

والاميركيون الذين كانوا يعتقدون ان العراق هو المانيا او اليابان، انما كانوا يثبتون جهلاً اضافياً في قضايا المنطقة وتراكيبها. وبعدما ظنوا انهم ارضوا الجميع في حقائب السلطة الجديدة، تبين لهم انهم نسوا الصابئة، الطائفة التي لم يسمعوا عنها من قبل، والتي تطالب الآن بمقاعدها.

لقد غادر العراق خلال حكم صدام حسين نحو اربعة ملايين انسان، بعضهم من خيرة النخب العلمية والثقافية والاقتصادية في العالم العربي. وكان متوقعاً ان يبدأوا بالعودة فور سقوط نظامه. لكن العائدين من بغداد يقولون ان النخب التي بقيت في العراق، تغادره الآن. وثمة مشكلة اخرى سوف تواجهها اميركا ويدفع ثمنها العراق. وهي المشكلة الاقتصادية. فالحياة ـ والاشياء ـ رخيصة حتى الآن. لكن التضخم بدأ كما حصل في حرب لبنان. وغدا سوف ترتفع كلفة كل شيء وتبقى الموارد خالية. وعندها يتضح حجم المأساة الحقيقي.