ثقافتنا.. ورصاصة الرحمة!

TT

ليس سهلا ان يسلبك انسان ارضك وانت تقف مكتوف الذراعين، تنتظر الفارس الهمام الذي سيأتي على جواد ابيض ليقضي على اللصوص الذين نهبوا خيرات وطنك، وليس يسيرا ان يسحب احد البساط من تحت قدميك وانت تتكئ على جدار سميك، لتجد نفسك فجأة منكفئا على وجهك، تبحث عمّن ينفض الاتربة عنك، وليس شيئا بسيطا ان تكون مستغرقا في الفرجة على مظاهر الكون من حولك، لتلقي نفسك فجأة وسط دوامة من الاعاصير المفاجئة، التي تقذفك يمينا وشمالا لينتهي بك المطاف الى بقعة ثانية لا حياة للبشرية فيها، لكن من الممكن ان تتقبل برضى كل هذه المتغيرات اذا كنت شخصا سلبيا، لا تعتز بقيمك الفكرية، ولا تملك في اعماقك حصانة حضارية، لحظتها ستُسرق منك هويتك، ويُصادر تاريخك، ويُزوّر ماضيك، ويشوّه حاضرك، ويُعدم مستقبلك امام ناظريك، وانت تتفرج في صمت!!

قام الأمير هاري، الابن الثاني للامير تشارلز ولي عهد بريطانيا، بعرض مجموعة من اللوحات قام برسمها مستخدما رموز السكان الاصليين في استراليا، وقد قامت جماعة في سيدني مهمتها المحافظة على حقوق هؤلاء السكان، باتهام الامير هاري بسرقة ثقافتهم قائلين «..ان الانجليز سرقوا ارضنا.. سرقوا مخلفاتنا.. والآن يسرقون ثقافتنا.. ماذا بقي لتأخذه انجلترا من اهل البلاد الاصليين..؟». لقد احتج سكان استراليا الاصليون على سرقة رموزهم ليقينهم بان موروثاتهم الثقافية هي بصمتهم الحقيقية، وهي التركة التي ستحملها اجيالهم جيلا بعد جيل، لكن ماذا عن عالمنا العربي؟! لماذا لا نُقيم الدنيا ولا نقعدها حين تسرق آثارنا وتُنهب فنونا من موسيقى وغناء ورقص؟! هل لاننا تعودنا على ان تتساقط منا اشياؤنا يوما بعد يوم، حتى وصلنا الى مرحلة القنوط اللاارادي؟! ام لاننا ألفنا مع مرور الوقت، ان نضع حاجياتنا في صرة ونتخلص منها سريعا، ببيعها في اقرب سوق شعبي، حتى لو كان الاحتفاظ بها سيعود بالنفع علينا مستقبلا؟! ام لاننا نشأنا وترعرعنا في بيئة بهلوانية علمتنا ان نغضّ الطرف، لعدم قدرتنا التمييز بين المهادنة والمجادلة؟! ام ان البلاء كله ينبع من المثقفين العرب، الذين لم يعودوا حريصين على خلق فكر حر، يكون حرزا قويا للاجيال القادمة؟! ام لان المثقف نفسه صار همه محصورا في تزويق نفسه وتأمين حياته على حساب مسؤوليته كمثقف؟ ام ان وصول المثقف الى هذا الوضع المأساوي ناتج عن احتكار السلطة منذ عقود طويلة لجميع وسائل الاعلام، مما جعل الثقافة العربية في مجملها تتحول الى ثقافة هشة، مختلة العقل، تكشف عن عورتها امام الغرباء دون ان يرف لها جفن، ما دامت واثقة بان السلطة ستدافع عن هذا الفجور المفضوح بحجة انها فاقدة الاهلية، حتى صارت الثقافة العربية مثل الحبل السري الذي يمد الجنين بالغذاء الى ان يحين موعد خروجه للدنيا! للاسف لم يكتف عالمنا العربي بهذا النوع من الثقافة المبرمجة مثل الرجل الآلي، وانما فتح عقول افراده ليلقي فيها كل النفايات الفكرية التي تفرزها دول الغرب وعلى رأسها اميركا، فاذا قالوا لنا إن الكفاح يعتبر ارهاباً اذا كان يمس اسرائيل لا بد ان نقر بهذا، بل ونُروّج لسياسة الخنوع حتى لو كان الكفاح حقاً من حقوقنا المشروعة في تحديد مصائرنا كشعوب غدت مسلوبة الفكر والارادة! واذا قالوا لا بد ان نُغيّر جلدنا، ونذبح لغتنا، وننهل من بحور ثقافاتهم بلا تمييز وباسم العولمة والتحضر، يجب ان نطيع بدون تفكير، بصراحة شديدة يريدون امة بكماء صمّاء، تلميذة مؤدبة حتى تحصل على شهادة حسن سيرة وسلوك عالمية!! حتى تعودت المجتمعات العربية على ان تكتف بالرجعة على مصائبها بعين المستسلم هذا اذا لم تعش كذبة التصديق، والترويج لما يقولون!

كتب لي احد القراء تعليقاً على غياب صوت المثقف العربي قائلا «..ان الغائب من الممكن ان يعود يوما، لكن ما يخشاه ان تكون المسألة غيابا ابديا، يعني موت الضمير ذاته، والميت لا يعود..». فهل تعني هذه العبارة تحميل المثقف العربي مسؤولية ما آلت اليه مجتمعاتنا العربية؟! وماذا تعني الثقافة؟! هل تلك التي ترتبط بموروثات الماضي؟! ام ان الثقافة الحقيقية هي تلك التي تساهم في بناء حضارة الامم، وان التفريط في بنية الثقافة هو الذي اوصل المجتمعات العربية الى حافة اليأس والعجز الفكري وعدم القدرة على بناء غد ناصع الرؤية؟!

الطوفان اصبح يحيط بالعالم العربي من كافة الاتجاهات، والمشاكل تخرج لنا لسانها من كل صوب، دون ان تملك المجتمعات العربية القدرة على الخروج من هذا النفق المظلم. وما زاد الطين بلة، الظاهرة التي تفشّت في العقد الاخير، في لهث العديد من اساتذة الجامعات في عالمنا العربي للنشر في الاعلام بقنواته المختلفة، والانصراف عن مهمتهم الاساسية في التعليم الجامعي والقاء المحاضرات داخل المدرجات، بل واستماتة البعض منهم للاستحواذ على عامود اسبوعي او يومي في صحيفة او مجلة ناجحة، ليس عشقا للقلم، ولا حبّا لدنيا الكتابة، وانما للولوج لعالم الشهرة، حيث اصبحت الشهرة المفتاح السلس الذي يفتح كل الابواب المستعصية، بجانب انها الوسيلة الاضمن للتقرب من السلطة للحصول على منصب بارز في الدولة وعلى مميزات استثنائية!! مما جعل الثقافة وسيلة رخيصة للاسترزاق، بدلا من ان تكون الادارة العليا لاصلاح اعطاب المجتمع!! لذا بات كل شيء في حكم المباح ما دام يصب في مجرى المصلحة السلطوية، وقديما قالوا لا يضّر الشاة ذبحها بعد موتها، فقد ذبحت منذ امد بعيد كرامتنا، وهتكت اعراضنا، ودفنت عزتنا، ولم يبق امامنا سوى البكاء على الاطلال اذا ما زالت هناك اطلال لم تنهب على يد الغزاة، الذين توالوا على اوطاننا على مدار التاريخ.

ليس عيبا ان نعترف بأخطائنا، ونغربل مناهجنا بما يتناسب مع متطلبات العصر، وليس شاذا ان نقتبس من علوم غيرنا، لكن العيب ان نسمح للغرباء ان يطمسوا ثقافتنا، ويشوهوا تاريخنا، ويقلعوا اظافرنا بحجة ان هناك جراثيم مغروسة تحتها قد تؤدي الى انتشار وباء قاتل!! في النهاية نحن اقدر على حماية انفسنا من التلوث البيئي المحيط بنا اذا حكمنا اغلاق نوافذنا حين نخلد للنوم بعد عناء يوم طويل، لكن المهم ان لا نوصدها طويلا حتى لا نُصاب بالاختناق لحاجة الرئتين دوما لهواء نقي خال من الاشعاعات الذرية!