العراق ليس نموذجا

TT

يذهب توماس فريدمان في مقاله الأخير الذي نشرته «الشرق الأوسط» الاثنين الماضي إلى أن أحداث العنف والتفجيرات الدامية التي عرفتها العراق في الأسابيع الأخيرة تبين إخفاق السياسة الأمريكية المعتمدة في العراق منذ احتلاله. وقد خلص في تحليله المتشائم البعيد من النغمة الحماسية المتفائلة التي كانت تطبع مقالاته الأولى أيام الحرب وما بعدها إلى القول: «لست متأكدا مما يفعله بوش خلال عطلته، لكنني أعلم ما تمر به البلاد، وقد بات القلق يراودها. فالناس يحاولون فهم ما يجري، العجز قابل للانفجار، وغياب الحلفاء عن العراق، والتكاليف الباهظة للحرب وارتفاع أعداد الضحايا، يرغب الناس في التوقف عن الاستماع إلى ما يطرح بشأن أهمية تحقيق النصر في العراق، ويرغبون في مشاهدة خطة توضح كيفية حدوث ذلك بتكلفة يمكن للبلاد أن تتحملها».

وتسير ملاحظة فريدمان في سياق الحوار الواسع الذي يشغل اليوم النخبة السياسية والفكرية في الولايات المتحدة إزاء المسألة العراقية، التي اعتبرت ساحة اختبار رئيسية لتوجه كامل جديد في السياسة الخارجية، في أبعاد ثلاثة:

ـ تجسيد مفهوم الحرب الاستباقية (أو الاجهاضية على الأصح) من حيث هي النمط الملائم لمواجهة الإرهاب.

ـ تكريس مفهوم جديد للشرعية الدولية يتمثل في الالتفاف على القانون الدولي وهيئة الأمم المتحدة بالاستناد للمشروعية الأخلاقية والقيمية (إسقاط الأنظمة المستبدة وتحرير الشعوب) وبناء تحالفات دولية محدودة خارج المظلة الأممية.

ـ السعي لنشر وتعميم النموذج الديمقراطي عبر الحضور العسكري والمدني الأمريكي تسهيلا لمسار الانتقال نحو التعددية السياسية في مجتمعات وثقافات ليس لها تراث ديمقراطي سابق.

فحرب العراق الأخيرة إذن كانت بالنسبة لمؤسسة القرار الأمريكية والجهات الفكرية والسياسية الموالية لها نقطة تحول جذرية في الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة، وكل فشل لها مآله تقويض هذه الرؤية في مراحل تشكلها الأولى.

صحيح أن المشهد السريالي الذي كنا نقرأه على نطاق واسع في الصحافة العربية لم يتحقق، من قبيل المخططات الأمريكية المزعومة كإعلان الحرب على سوريا وإيران، وتقسيم العراق إلى كانتونات طائفية، وتقسيم بلدان عربية مثل المملكة العربية السعودية، وإزاحة بعض الزعامات العربية عن مراكز السلطة، وفرض تسوية شرق أوسطية من منظور إسرائيلي.

بيد أن الشواهد الملموسة والمتزايدة في الساحة توحي بوضوح أن الأهداف المعلنة من الحرب غدت عصية المنال، في الوقت الذي يضيق هامش المناورة المتاح لسلطة الاحتلال التي هي أمام خيارين ضيقين:

إما الاستمرار في منطق الاحتلال وتكثيف التواجد العسكري والإشراف على أوضاع العراق السياسية والاقتصادية بما يؤدي إليه هذا المنطق من مخاطر جمة لا تحتاج لبيان، أو إعادة الملف العراقي إلى المظلة الأممية وإلى الأطراف الإقليمية المعنية به، مما ينجم عنه إعلان مدوي لفشل العقيدة الإستراتيجية الأمريكية الجديدة.

لقد أدرك هذه الحقيقة وليام كريستول، وروبيبركاغان، وهما من أبرز رموز الاتجاه المحافظ الجديد المهمين على مركز القرار، ومن أهم المدافعين عن نهج الحرب الاستباقية، وقد ألفا كتاب "الحرب على العراق" للدفاع عن صحة هذا النهج ونجاعته. ففي مقالهما الأخير بصحيفة «ويكلي ستاندار» يشككان في إمكانية نجاح المشروع الإقليمي الطموح الذي طرحه الرئيس بوش لقلب أوضاع المنطقة الشرق أوسطية، منبهين إلى "أنه لا مجال للغلط: فإما أن تنجح رؤية الرئيس من الساحة العراقية، وإما أن تدفن فيها"، ذلك أن الفشل في العراق سيكون له الأثر السلبي الفادح على كل ما تأمل الولايات المتحدة أن تفعله وكل ما يتوجب عليها فعله في السنوات القادمة.

وكل المؤشرات تدل حسب رأي كاغان وكريستول على أن الأوضاع الراهنة لا تعد بالنجاح المأمول، فما زالت إدارة بوش عاجزة عن تأمين الموارد الضرورية لإعادة بناء العراق، ولم تتمكن بعد من ضمان القاعدة الأمنية الضرورية لعودة الحياة الطبيعية لمجاريها، بل أن مسلسل العنف والفتنة بلغ ذروته في الأيام الأخيرة، ويحمل الكثير من العراقيين سلطات الاحتلال مسؤوليته. فالأسئلة الثلاثة المطروحة اليوم بحدة على الإدارة الأمريكية هي حسب كريستول وكاغان:

كيف يمكنها تأمين الموارد الهائلة التي تتطلبها إعادة بناء العراق ويقتضيها إصلاح بنيته التحتية ودفع اقتصاده المتعطل، في الوقت الذي تجتاز الولايات المتحدة أزمة اقتصادية عاتية ويحجم شركاء الولايات المتحدة عن الإسهام في مجهود ترميم الأوضاع العراقية؟

وكيف يتسنى للولايات المتحدة الاضطلاع بدورها السياسي والتوجيهي، وهي عاجزة عن تأمين الهيكل الإداري الضروري لسدّ الثغرة المتولدة عن انهيار النظام السابق، في الوقت الذي لا يمكن أن تكل كل الصلاحيات للمجلس العراقي المعين والحكومة المتفرعة عنه؟

إذا كان كريستول وكاغان يرجعان المأزق الأمريكي في العراق إلى أسباب لوجستيكية ومالية ونقص في أعداد أفراد الهيكل الإداري لسلطة الاحتلال، إلا أن عمق الأزمة له خلفيته الأكثر جوهرية، وتتلخص في اعتقادنا في عاملين أساسيين أغفلتهما إدارة بوش في زخم زهوها بنصرها العسكري:

العامل الأول: غياب أي مشروع سياسي للتغيير المنشود لدى سلطات الاحتلال، التي اكتفت بالرهان على ديناميكية التحول الداخلي وعلى المكاسب التلقائية المترتبة على انهيار النسق الصدامي. وتتجلى هذه الثغرة في التذبذب الواضح في التعامل مع الاستحقاقات الأولية المترتبة على انهيار ركائز النظام السابق من جيش وإدارة وأجهزة أمنية.

العامل الثاني: طبيعة العلاقة المعقدة والملتبسة التي تربط سلطة الاحتلال بالقوى السياسية المستفيدة من التغيير. فباستثناء الجناح الهامشي الموالي لها (مجموعة أحمد جلبي وبعض التنظيمات الصغيرة الأخرى)، نلمس بوضوح أن التشكيلات السياسية الرئيسة تعارض الاحتلال وتناهض المشروع الأمريكي حتى ولو كانت استفادت من سقوط النظام السابق، وهي ليست مستعدة للدخول في الأجندة الأمريكية. ومثال هذه التشكيلات التنظيمات الشيعية القوية والواسعة الحضور والعديد من التيارات الوطنية الأخرى.

لقد راهنت إدارة بوش رهانا خاسرا على تجربتها في العراق لبناء نموذج إقليمي مشرق يكون في آن واحد مثالا للاحتذاء ورأس حربة لاختراق باقي بلدان المنطقة. وما كشفته الأحداث الأخيرة هو بداية تراجع المطلب الأمريكي من قلب وتغيير أوضاع المنطقة عبر البوابة العراقية إلى البحث عن شروط المخرج الآمن من المستنقع العراقي.

seyid @ themail.com