الوجدان لا ينبت ولا يصنع ولا يستورد.. بل يتشكل بالوعي

TT

كانت كلمة «وجدان» من أهمّ الكلمات التي سمعناها باستمرار في طفولتنا واكتسبت لدينا في الشباب سلطة تندرج بعد السلطة الإلهية وربما تمثل تجسيداً لها في قلب وضمير كل شخص. فالإنسان الذي يتمتع بأخلاق كريمة يعمل دائماً بما يمليه وجدانه، والشخص الذي يمتلك وجداناً حراً ليس بحاجة إلى حساب أو مراقبة لأن وجدانه هو خير رقيب، والإنسان يعمل ليرضي وجدانه قبل إرضاء ربّ العمل أو المجتمع أو حتى الدولة، وهكذا فقد كان يكفي أن تصف انساناً بأنه «عديم الوجدان» لكي لا تقبله صديقاً أو زميلاً وكي لا توكل إليه أي شيء يتطلب الثقة والأمانة. وربما اكتسبت كلمة «وجدان» هذه القوة الأخلاقية والاجتماعية من غموضها بحيث أن معناها يشمل الأخلاق والتربية والتصرف الاجتماعي والوطني السليم. ولكن ورغم هذا الغموض فإن الجميع يعرف الفرق بين الأعمال الصادرة عن «صاحب الوجدان» وتلك التي يقوم بها «عديم الوجدان».

اليوم وأنا أحاول أن ألملم خيوط ما يجري على الساحة العربية سياسياً واجتماعياً وثقافياً أجد نفسي أمام حالة مبهمة أو حالة معقدة لا تساعدني على حلّها إلا استعادة «الوجدان» الانساني والعربي وتنصيبه حَكَماً على ما يجري لحاضر ومستقبل هذه الأمة.

قرأت خبراً على سبيل المثال بأن تعليماتٍ تُليت في مختلف المدارس الفلسطينية تنص على حظر تعليق أو تداول صور الشهداء في المدارس وعلى حظر تعليق صور الشهداء على جدران المدرسة أو داخل الصفوف الدراسية، علماً بأن تلاميذ المدارس الفلسطينية اعتادوا تعليق صور زملائهم الشهداء في المدرسة تعبيراً عن الوفاء لهم. كما نصت التعليمات على حظر المشاركة في المسيرات أو أي شكل من أشكال التعبير عن فعاليات الانتفاضة ومنع التلاميذ من الانتماء إلى أي تنظيم أو ترويج أفكار أي فصيل. وإذا كنا جميعاً قد ترعرعنا على الإيمان بأن الشهداء يمثلون وجدان هذه الأمة، وأنهم أنبل من في الدنيا وأكرم بني البشر أولا، تعتبر هذه التعليمات من حيث تدري أو لا تدري تقويضاً للوجدان التربوي والوطني، إذ كيف يمكن أن يتمسك التلاميذ بانتماءاتهم ويؤمنون بحقهم في الدفاع عن هذا الانتماء إذا كان قد طلب إليهم بأن لا يفخروا بمن ضحى وقضى من أجلهم ومن أجل مستقبلهم ومستقبل هذه الأمة جمعاء. وفي خبر آخر يسددّ ضربة أخرى للوجدان الوطني والقومي فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي 100 مصطلح عن الصهيونية وتاريخها ومراحل احتلال إسرائيل للأراضي العربية كافة في المناهج التعليمية الفلسطينية والإسرائيلية لكافة المراحل الدراسية، وهي مصطلحات وضعتها وزارة التربية الإسرائيلية عن الصهيونية واليهودية والحروب التي خاضتها وأهم الشخصيات الإسرائيلية!! وهكذا على الطلاب الفلسطينيين أن ينتزعوا من وجدانهم زملاءهم الشهداء ليدرسوا عن شخصيات إسرائيلية خاضت الحروب ضدهم!

وفي رسم بياني حول كيفية استهداف إسرائيل لقادة «حماس» حيث قتلت 11 قيادياً في حركة «حماس» في عمليات إطلاق صواريخ كشفت جريدة «الشرق الأوسط» عن أن الخطوة الأولى في هذه العمليات هي «المعلومات عن تحركات قادة «حماس» التي يقدمها مخبرون فلسطينيون للإسرائيليين»، وطبعاً هناك أحداث أخرى كثيرة وهامة ومفصلية في تاريخ هذه الأمة ـ القريب والبعيد ـ حدثت نتيجة اختراقات في الصميم لعدد من أبنائها قايضوا الانتماء بحفنة من الدولارات أو المكاسب الشخصية وتصرفوا بشكل يُري انعدام أي أثر للوجدان الوطني أو القومي أو حتى الوجدان المهني الذي يملي عدم خيانة المهنة لأسباب مهنية صرفة إذا لم تتوفر أسباب الوطنية والانتماء.

والوجدان لا ينبت في الأراضي كالنبت والشجر ولا يتمّ تصنيعه في أي صناعات للقطاع العام أو الخاص ولا يستورد بعلب ذات مظهر جميل ولكنه يتشكل نتيجة الوعي الذي تعمد المناهج التربوية والأخلاق الدينية والاجتماعية والوطنية إلى صياغته في ذات الإنسان منذ نعومة أظفاره. ولكن هذا الوعي بحاجة أيضاً إلى استراتيجيات تربوية واضحة تضع الأفكار والمنطلقات التي تطمح الى أن يعتنقها ويؤمن بها أبناء الأمة جميعاً، وهذا هو بالذات التحصين الفكري والثقافي الذي أصبح مهلهلاً في العقود الأخيرة من عمر هذه الأمة. فمع أن العرب عُرفوا بالشعر والفكر والفلسفة فإننا نرى اليوم كليات العلوم الإنسانية في الجامعات العربية برمتها تعاني من الفقر والإهمال والتقهقر كما نشهد شبه انعدام مطلق لمراكز الأبحاث والمراكز الإعلامية التي هي منارات إضاءة تعزز من الانتماء وتصقل الوجدان وتغذيه وتضمن سلامته وسلامة توجهه. ولا يتذكر أحد أن نسبة اليهود في الولايات المتحدة هي أقل من 3% ولكن نسبة الطلاب اليهود في كليات العلوم الإنسانية الأمريكية تزيد على 30%، ولذلك فهم حاضرون دائماً في الحوار الفكري والسياسي والإنساني ويساهمون بشكل فاعل في توجيه هذا الحوار الوجهة التي يرتأون ويحبذون.

لقد أدى خمود الوجدان في العمل والمدرسة والجامعة والشارع إلى نتائج كارثية على الساحتين العربية والدولية، وحدث نتيجة لذلك تشويش للحقوق والمبادئ والرؤى انعكس على الكرامة الفردية والوطنية والقومية. كما أدى ذلك إلى انخراط في صراعات داخلية هنا وهناك تشرذم من المواقف وتهدد باندلاع حروب أهلية في الوقت الذي يركز فيه أعداء هذه الأمة على الصورة الكبرى والاستراتيجيات التي تجفف منابع سبل العيش لكل من يقاوم احتلالاً أو يطالب بحق، بينما ينخرط البعض في حوارات ونقاشات لا يجدي بعدها اتفاق أو اختلاف لأن الواقع يتغير من تحت أقدامهم على المستويات كافة، ولأن صياغة الاستراتيجيات تتم في عواصم أخرى وما يجري هنا هو مجرد سيناريوهات لإضاعة الوقت وإشغال البعض بمسائل لن تقدم ولن تؤخر في الحسابات الحقيقية النهائية.

كيف يمكن أن نقنع الأجيال القادمة بأن تضحي من أجل أمة تعاني من أزمة وجدان، والوجدان هو البوصلة الحقيقية التي توجه وترشد وتراقب وتحاسب. لا بدّ لنا من أن نعمل على المستويات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لإعادة «الوجدان» إلى مكانه اللائق به كي نتمكن من الاستمرار في خلق الوعي وتحصين شباب المستقبل. وأول ما يتوجب مراقبته هنا هو المناهج التربوية مع بدء العام الدراسي الجديد ووضع التعليمات والمصطلحات التي تحفز الوعي وتعزز الإيمان بالحقوق حتى وإن لم يتم استردادها قريباً، ولكن استمرار الإيمان بها أمر في غاية الأهمية.

هل يمكن للمثقف العربي أن يستعيد دوره اليوم ليكون كما كان دائماً ، نبراساً للتحرر الحقيقي ومرشداً إلى الطريق الذي لا تستكين به هذه الأمة ولا تستسلم إلى ضيم؟ هل يمكن لكل فرد عربي أن يأخذ خلوة صغيرة مع وجدانه ويتساءل عن مسؤوليته في هذه المرحلة الخطيرة والصعبة التي نعيشها جميعاً لأن وجدان الأمة انعكاس حقيقي لوجدان الفرد والمجتمع ولا بدّ لنا من إعادة إحياء وصقل أهمية الوجدان والانتماء والتحصين الخلقي والمعرفي في حياة الفرد والأمة سواء بسواء؟

* كاتبة سورية