عام آخر من الخوف وعدم التفاهم

TT

تمر هذا الاسبوع الذكرى الثانية للهجمات الارهابية على مركز التجارة العالمي والبنتاغون. وقد خلفت تلك المأساة آلية ذات تأثير دراماتيكي على السياسة الداخلية والخارجية الاميركية، خصوصا على العلاقة الاميركية العربية.

فمن تلك الصدمة التي برزت مباشرة في اعقاب الحادي عشر من سبتمبر جاء الاعتراف بهوة عميقة فصلت بين اميركا والعالم العربي. وعلى الرغم من الجهود ذات النيات الطيبة التي بذلها البعض لتجسير الفجوة، فمن الواضح ان هذه الهوة قد اتسعت، بعد عامين من ذلك الحدث، وتزايد سوء الفهم والارتياب.

وخلقت توليفة الخوف والجهل والسياسات غير السليمة خميرة قاتلة. وكان الخوف لدى كلا الطرفين حقيقيا، وبحاجة الى معالجه بطريقة مبتكرة وحاسمة. وبينما اتخذت بعض الخطوات الايجابية، فإنها لم تكن كافية لمجابهة المد السلبي الساحق الذي بات يحدد ردود الفعل الاميركية والعربية على الازمة.

ومن ناحيتها لم تتصرف الزعامة العربية بما يكفي من النشاط لمعالجة عاجلة لما يقلق الاميركيين العاديين. وبينما كانت الشائعات بشأن الحادي عشر من سبتمبر تنتشر في الشرق الاوسط، فإنها لم تعالج، واذ واصل الاميركيون مراقبتهم للمأساة وهي تتكشف، كان العرب بطيئين في فعلهم وادراكهم لخطورة الوضع. لقد ارتكب 19 من الشباب العرب جريمة مروعة. وفضلا عن ذلك وضعوا وجها عربيا واسلاميا على تلك الجريمة. ونتيجة لذلك بات هؤلاء الـ 19 يمثلون العرب والاسلام بالنسبة لكثير من الاميركيين.

وفي تلك اللحظة، وفي بداية الازمة، كان الاميركيون بحاجة الى ان يسمعوا من العرب والمسلمين الآخرين الذين كان بوسعهم مواجهة الصور الزائفة، وتوفير ترياق للخوف المتزايد، لقد سمعوا من الاميركيين العرب، لكن ذلك لم يكن كافيا.

وكانت الزعامة الاميركية، هي الأخرى، بحاجة الى رد فعل مختلف، ومما عزز مصداقيته فإن الرئيس بوش بادر فعلا الى التأكيد على ضرورة احترام العرب والمسلمين. وتحدى بقوة أولئك الذين دافعوا عن «صدام حضارات» في كلا الجانبين.

ولكنه كان يقود شعبا مرتعبا جرت مهاجمته بصورة وحشية، ولهذا فإنه وآخرين في ادارته وجهوا رسائل أخرى ايضا. وبينما طرح الرئيس الصراع بصيغة «أنتم معنا أو ضدنا» الصارمة، فإن المدعي العام كشف عن سلسلة من المبادرات التي ادت الى تجميع الوف العرب والمسلمين المحتملين في اطار التحقيقات. ولم يؤد هذا الا الى تفاقم الخوف في كل الجوانب. فالجاليات التي كانت ضحية جرائم الكراهية وردود الفعل المرتبطة بها راحت تشعر عندئذ، بأنها مستهدفة من جانب هيئات تنفيذ القانون. وقد قللت الرسالة التي وجهتها هذه الممارسات الى العالم العربي من أهمية الكلمات الاولى للرئيس التي تضمنت تأكيده على انه لا ينبغي النظر الى الحرب ضد الارهاب باعتبارها «حربا ضد العرب والاسلام». وفي الوقت نفسه لم يؤد سلوك المدعي العام الا الى اذكاء نيران الشكوك التي بدأ يشعر بها بعض الاميركيين الى جيرانهم العرب والمسلمين. وكانت النتيجة خوفا أعظم على كل الاصعدة.

ولكن القرارات السياسية غير السليمة التي اتخذها الطرفان مضت الى ما هو ابعد من ذلك. فإلى حد كبير كان المتطرفون، أو ببساطة اولئك الذين يحملون تعصبات معلنة، قادرين على دفع السياسة والهيمنة على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة وكثير من العالم العربي.

ومن ناحيتها انتهجت الولايات المتحدة سياسة عسكرية انفرادية وذات طابع عدواني مغامر، ادت الى تفاقم شديد للتوترات. وبسماحها لحكومة شارون في اسرائيل ان تتصرف وفق ما يحلو لها مع الفلسطينيين، بددت الولايات المتحدة فرصة نزع فتيل التوترات في المنطقة.

وفي الوقت ذاته تصرف بعض الفلسطينيين ومؤيدوهم بطريقة تعود بالفائدة على أولئك الذين سعوا، في اسرائيل وفي الولايات المتحدة، الى المماثلة بين وضع اسرائيل ووضع اميركا في اعقاب الحادي عشر من سبتمبر.

وقد عززت الهجمات المستمرة على المدنيين الاسرائيليين والتبرير الخطابي لتلك الهجمات، الذي جاء من اجزاء من العالم العربي، من المواقف الاميركية السلبية تجاه العرب والاسلام.

وفي غضون ذلك اخطأ معظم الزعماء العرب، بصورة جدية، تقدير المشهد الاميركي المتحول، بالافتراض الخاطئ بأنه كان بوسعهم مواصلة «العمل بالطريقة المألوفة». فلم يشاركوا في نشاط، في استيعاب الرأي العام الاميركي والتأثير عليه. ولم يبالوا باشارات التحذير في ما يتعلق بالازمة مع العراق. وباستثناء مبادرة ولي العهد السعودي الامير عبد الله بشأن الصراع العربي الاسرائيلي اخفقوا منذ البداية، في اتخاذ مبادرات جريئة كان لها أن تساعد على اعادة صياغة المواقف بشأن المنطقة.

ونتيجة لهذه القرارات السياسية أو غير السياسية، فإن سير العلاقة العربية الاميركية قد جرى في اتجاه مقلق وسلبي على نحو متزايد، وجرى دفع هذا الوضع عبر النقاش السياسي المتزايد العدوانية الذي راح يشخص مواقف كلا الطرفين، بل ان وجهة نظر سطحية متعجلة في التعليقات التي ملأت الموجات الهوائية وافتتاحيات الصحف في الولايات المتحدة والعالم العربي عززت هذه النزعة. وبعد عامين على الحادي عشر من سبتمبر فإن سوء الفهم هو ليس وحده الذي تزايد، وانما الصيغ السلبية النمطية تحولت الى حكمة مقبولة وتعصب ينتقل الآن الى التحليلات الفكرية. وارتباطا بالآيديولوجيين المتشددين والمتطرفين الدينيين الذين يقررون النقاش في كلا الجانبين، اي فرصة تبقى لنمو وتعزز الفهم؟ واي فرص هناك امام العرب والاميركيين للتواصل عبر الهوة، ومناقشة مخاوفهم، وانتقاد السياسات غير السليمة التي اوصلتنا الى هذه النقطة، والتوصل الى رؤية بعضنا بعضا كما نحن عليه في واقع الحال؟

والحق، انه كانت هناك بعض الجهود التي بذلت في هذا الشأن، وهي جهود استهدفت خلق حوار حقيقي بين العالمين. وقد شرفني ان أكون جزءا من تلك الجهود التي بذل بعضها وكانت تجارب ايجابية تماما.

فقبل عام، وفي الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2002 دعتني شبكة «إن بي سي» التلفزيونية الاميركية الى نيويورك لأكون جزءا من برنامج خاص على الهواء مع عوائل ضحايا الحادي عشر من سبتمبر. وكانت تجربة شخصية فعالة عندما كنت اجلس وحيدا على مسرح محاطا بتجمع نصف دائري يضم 200 من الناجين، وكلهم في حداد، وكلهم يسعون الى اجابات.

وعلى مدى ساعة ونصف الساعة شاركنا في الحوار بحثا عن التفاهم. لقد حدث شيء مروع لاحبائهم، وكانوا يريدون الاستفادة من هذه المأساة. وبالنسبة لكثيرين من افراد الجمهور كان ذلك الحوار واقعيا. لقد تحدثوا عن خسارتهم وآلامهم. ووجهوا اسئلة حول أمور كانت تقلقهم. وأرادوا التعرف بصورة اوسع على العرب، وكانوا يتميزون بالقدرة على الاصغاء. وبالنسبة لقليلين في المجموعة لم يكن الحوار ممكنا. لقد كانوا غاضبين، وقد اغلق الغضب آذانهم. ولكنهم كانوا اقلية. وبالنسبة للبقية، وللملايين الذين كانوا يشاهدون، كانت المواجهة بأسرها ترياقا مهما لسوء الفهم. وقد جعلت مئات الرسائل الالكترونية التي تلقيناها في الايام التالية من الواضح بالنسبة لي ان محطة «ان بي سي» قد وفرت لنا، جميعا، فرصة لتجسير الهوة.

وفي العالم الحالي، وقبل حلول الذكرى الثانية للحادي عشر من سبتمبر، خلق تلفزيون ابوظبي فرصة مماثلة في اهميتها للحوار الاميركي العربي. وسيتذكر المشاهدون ان محطة تلفزيون ابوظبي نظمت عددا من الندوات قبل الحرب مع العراق، ومباشرة في اعقاب سقوط نظام صدام. وقد جمع البرنامجان، اللذان شاركت فيهما، طلابا اميركيين مع نظرائهم العراقيين، ولم يغير البرنامجان السياسة ولكن بالنسبة لمن شاركوا فيهما، ولملايين المشاهدين، غيرت هذه البرامج عقولا وخلقت تفاهما.

وفي اطار مثل هذه الاستفادة من استخدام المحطات الفضائية لتعزيز الحوار، نظمت محطة ابوظبي حوارا بين طلاب بمعهدهم في الامارات، وتوماس فريدمان، كاتب العمود في «نيويورك تايمز»، ومبدع الفيلم الوثائقي الاميركي «جذور الحادي عشر من سبتمبر».

ويتميز البرنامج، الذي سيبث في المحطة يوم العاشر من سبتمبر (ايلول) 2003، بأهميته. فهو يطرح الاسئلة المهمة بشأن القضايا التي تقسم الولايات المتحدة والعالم العربي. وبينما لا يجري التوصل الى اجماع، فإن الحوار الذي دام ساعة ونصف الساعة يوفر تبادلا للآراء مفيدا، وفي بعض الاحيان، ثاقبا وبوسعنا، جميعا، التعلم منه.

هذا هو الاتجاه الذي يجب ان نسير فيه نحو حوار يتسم بالاصغاء، ويتجاوز الغضب والخوف الى الخطاب الصادق والصريح. ونحن بحاجة الى ما هو اكثر، وليس اقل، من هذا النمط من البرامج، اذا كان لنا ان نردم الهوة، ونخلق فهما افضل، وبالتالي نغير السياسات التي تقسمنا. لقد قام الارهابيون والآيديولوجيون من كلا الطرفين باستثمار فعال للاعلام بهدف نشر الخوف وخلق الانقسام. ويجب على أولئك الذين يريدون وجهة أخرى ان يستثمروا الاعلام على نحو أكثر فاعلية. واذا ما أخذنا في الحسبان الاستقطاب المتزايد الذي نشأ خلال العامين الماضيين، فإن هذا التحدي يصبح، اليوم، أعظم. وسيكون الامر صعبا، لكنه ليس شيئا لا يقهر.