حبيبي وما بعده من حبيب

TT

إذا سألت أي عراقي عن احسن هدية يتسلمها من نظام صدام حسين فهو الباسبورت مع فيزة بريطانية. وكانت السلطات تعرف ذلك. فكلما ارادت ان تكرم احدا وسألته عما يريد اجابهم اعطوني باسبورت نافذ المفعول. كم وكم التقيت بعراقيين وسألتهم كيف خرجتم وجئتم هنا؟ وكان الجواب غالبا والله اعتقلوني وضربوني بالغلط ثم ارادوا الاعتذار لي فسألوني عما اريد. فقلت لهم الله يخليكم بس اعطوني باسبورت واذن بالخروج.

الباسبورت اهم ثروة بيد أي مواطن عربي. الحقيقة ان كل ما يملكه من قصور وسيارات لا تقاس بالباسبورت النافذ المفعول المليء بفيزات نافذة المفعول، بل اكثر من ذلك المواطن هو نفسه لا يعتبر شيئا بدون باسبورت، ليس له اي قيمة بحد ذاته. يكتسب القيمة فقط عندما يكون في جيبه باسبورت، انه مثل القاصة. ليست سوى صندوق من الحديد عندما تكون فارغة. ولكنها تصبح ثمينة ومهمة وتقتضي الحراسة عندما توضع فيها اشياء ثمينة. وكذا الحال بالنسبة للمواطن العربي. ليس له اي قيمة. انه مجرد شيء يوضع فيه باسبورت. ولكن طبعا يجب ان يحتوي على فيزات لدول غربية والا فلا قيمة له. هذا مثل البقلاوة. لا احد يريدها ما لم تكن محشية بالفستق.

وبالطبع تزداد قيمة الباسبورت عندما يكون اجنبيا وصادرا من دولة مهابة تدافع عن مواطنيها، كثيرا ما شعرت بذلك عند زياراتي للعراق. كنت امسك بجوازي البريطاني وكأنه الإنجيل والتوراة والزبور والقرآن في غلاف واحد. لا انام حتى اخرجه واتفحصه واقرأ ما فيه ثم ابوسه واضعه تحت المخدة وانام قرير العين. كثيرا ما كنت استفيق في هلع والعرق يتصبب من وجهي ورجلي ترتجف بعد كابوس حلمت فيه بأنني اضعته. استفيق من النوم فأفتش عنه وأجده ما زال تحت المخدة فيزول الهلع واستأنف النوم هنيئا رغيدا.

ولكن كثيرا ما حصلت لي مقالب مريعة، كما جرى عند زيارتي لوزير الاعلام. استقبلني التشريفاتي وبدأ باستجوابي عن حسبي ونسبي واخيرا قال: وين هويتك؟ قلت لا توجد عندي هوية. فصرخ في وجهي، ما عندك هوية؟ شلون؟ كان على وشك استدعاء الشرطة، فبادرته: آسف أنا بريطاني. وين باسبورتك؟ أخذه مني وفحصه صفحة صفحة. ثم وضعه في الدرج واعطاني بطاقة فيها رقم. اضطربت وشعرت بأنه خلع ملابسي وتركني عريانا. قلت جواز سفري ارجوك. قال تحصل عليه عندما تعود. مشيت والتقيت الوزير الذي راح يهذي على هواه دون ان اسمع كلمة واحدة مما قال. كان كل تفكيري منشغلا بالباسبورت. أين هو الآن؟ هل سيعيدونه لي؟ هل سيمزقون منه صفحة؟ هل سيبدلون صورتي؟ ظلت هذه الهواجس تنتابني والوزير يهذي وانا لا اسمع.

انتهى اللقاء وعدت للتشريفاتي. باسبورتي رجاء. اسمك؟ خالد القشطيني. فتح الدرج وفتش عنه. ماكو عندي هذا! سيدي اعطيته لك توا واعطيتني هذه البطاقة. نعم البطاقة صحيحة لكن ماكو باسبورت! يا للهول! شعرت بالأرض تزلزل تحت قدمي. عاد لتفتيش الدرج والدرج الآخر، وكل الادراج دون نتيجة. متأسف استاذ يمكن نسيته في البيت. ارجع دوّر عليه في البيت. وكيف اخرج؟ كيف امشي في الشارع؟ بدون باسبورت؟ اخي سلمتك الجواز قبل عشر دقائق. يعني طار؟ خليني اساعدك وادور ليه معك. يمكن وقع عالقاع.

أوه! والله ذكرتني: عالقاع! صحيح. حطيته تحت رجل الطاولة حتى اوازنها، كانت تتأرجح وضوجتني! مد يده ضاحكا واخرج باسبورتي من تحت رجل الطاولة ومسحه بأدب واعاده لي. وكان كمن اعادني الى حبيب عزيز غاب عني وهجر.