عندما تقتل إسرائيل البراغماتيين

TT

كان اسماعيل ابو شنب يتبسم في آخر مرة زرته قبل ثلاثة اسابيع. مسح على رأس ابنته، واعرب عن امل حذِر في ان تؤدي الهدنة الاسرائيلية ـ الفلسطينية الى نهاية حلقة العنف الدائم منذ ثلاث سنوات. في الاسبوع الاسبق انهت صواريخ طائرة اسرائيلية عمودية ذلك الامل، وقضت ايضاً على حياة ابو شنب. موته يسمح بنظرة في متناقضات حياة براغماتي فلسطيني ـ انسان يدعم السلام ويصطف ضده. جيل هذا الطراز، المشرف على الانقراض، المكروه من الاسرائيليين والمحترم من الفلسطينيين، قد يكون ضرورياً اذا اريد للطرفين تخطي العنف باتجاه التصالح. ابو شنب لم يكن قديساً. وسبق له ان اعتقل وحكم عليه بالسجن لخطفه جنديا اسرائيليا، مع ذلك فهو ليس الارهابي التقليدي ايضا، لقد حاول تجنب مدح العمليات الانتحارية، وكان يواجه صعوبة في تبريرها. لم يقل اسماعيل ابوشنب ابداً ان «كل يوم هو يوم جيد للعمليات الاستشهادية»، كما يحلو لزميله في «حماس»، عبد العزيز الرنتيسي، القول. لقد عرض متردداً حياته كشهيد من اجل القضية، على غرار ما يقوله الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على الدوام. بدل ذلك اختار ابو شنب طريقاً وسطاً يوفق بين دعم العنف وتأييد الصلح. «لدينا الحق الكامل للرد بدون أي حدود ضد ارهاب الدولة الاسرائيلية»، كما اعلن ذات مرة. ولكنه ايضاً دعم نهاية العنف، لقد قال مراراً ـ ولو بشكل ملتو ـ انه اذا انسحبت اسرائيل الى حدود الرابع من يونيو(حزيران) 1967، وانسحبت من القدس الشرقية، وسمحت بعودة اللاجئين من حرب 1948، فإن السلام سوف يصبح ممكناً. هذا الاتجاه الحذر محبب من الفلسطينيين العاديين الغاضبين من الهجمات الاسرائيلية اليومية على مدنهم، والمتعبين ايضاً من العنف. دعم هؤلاء الاولي للانتفاضة تراجع امام تكالب الرفض الاسرائيلي للانهزام امام العنف. في استطلاع رأي حديث قبل اعلان الهدنة، اجراه المركز الفلسطيني للابحاث السياسية، تجلت الآراء المتضاربة للمستطلعين، 80 % من الفلسطينيين دعموا هدنة غير محددة، و56 % دعموا حق حركة «حماس» في مواصلة الهجمات. السياسيون الفلسطينيون الاذكياء هم الذين يعرفون نبضات الشارع الفلسطيني، ويطورون الطريق المزدوج الملائم له. القائد الفلسطيني المعتقل مروان البرغوثي، الذي امر بعشرات الهجمات على مدنيين اسرائيليين، يتحدث نفس لغة ابو شنب، يطالب بالنار والدمار ضد الدولة اليهودية، وغالباً ما اعلن ان عملياتها العسكرية هي التي «فتحت ابواب جهنم»، ولكنه يستنتج، بعد كل اعلان، ان السلام سيعم عندما ينسحب الجيش من الارض الفلسطينية. البرغوثي ليس نيلسون مانديلا، كما لمحت مقالة في مجلة «التايم» اخيراً، ولكنه قائد حرب عصابات برؤية دبلوماسية. بعض الاسرائيليين يقدرون الدور البناء الذي يمكنه القيام به. مسؤولون كبار مثل افي ديشتر رئيس جهاز الامن الداخلي، وجيدون عيزرا الوزير من حزب الليكود الحاكم وغيرهما، كانوا من زواره في السجن. بينما يتفهم البرغوثي كيف يقيس المشاعر الفلسطينية، فان قادة غيره لا يستشعرون الرأي العام. رئيس الوزراء الفلسطيني (السابق) محمود عباس شجب العنف من دون مواربة. في يونيو، وبينما كان البحر الاحمر من ورائه والرئيس بوش على يمينه، شجب ابو مازن الارهاب ورفضه كأداة شرعية لانجاز هدف الدولة الفلسطينية. كان ذلك استجابة من عباس للمطالب الاميركية ـ الاسرائيلية، ولكنه تجاهل الاشارة للمطالب الفلسطينية. عندما عاد لبلده نبه ابناء شعبه. قامت المسيرات في غزة ونعتته بالعمالة. طريق عباس الاحادي للتصالح لم يؤهله امام الفلسطينيين. ورغم ان الاميركيين واسرائيل يرونه براغماتياً، فان شعبه وصمه بالمتخاذل الذي باع القضية الفلسطينية في سبيل الحماية الغربية. على الارجح ان ابو شنب والبرغوثي يمثلان وسطية السياسة الفلسطينية والبراغماتيين الحقيقيين. عبر تهديد اسرائيل يربحون الشرعية في اوساط جمهورهما، لكنهما يدعمان التصالح على اسس السلام العادل، وبالتالي يفوزان بالرضى من المجتمع المحتار والمتشوق الى العودة للحياة العادية. ابو شنب لم يملك الشجاعة والايمان القلبي التام لشجب العنف او الوقوف الى جانب السلام، ولكنه كما يفعل الكثير من الفلسطينيين، فقد حدد مراهنته ونال الاعجاب على ذلك، طالما تم ضرب الملوحين بالبراغماتية من امثاله بدل تشجيعهم، فان دائرة العنف في الشرق سوف تتواصل.

* باحث محاضر زائر في الجامعة العبرية بالقدس ـ خدمة «واشنطن بوست»