ماء وكهرباء وكهوف

TT

ولدت في بيروت لعائلة هاجرت حديثاً من القرية. وظلت القرية جزءاً اساسياً من حياتنا، نسارع اليها اول الصيف ونتباطأ في العودة الى المدينة اول الخريف. كانت بيوتها من الحجر الترابي، وكنا نحلم بحجر ابيض. وكانت طرقاتها صغيرة، وكنا نحلم بطرقات واسعة وحديثة. وكانت القناديل تضيء عتم الليل، هي والقمر، وبحور من النجوم اللماعة. وكنا نحلم بالكهرباء. وكان في القرية مدرسة صغيرة من قاعة واحدة، وكنا نحلم بتوسيعها. وكان فيها صيدلية صغيرة وطبيب واحد، وكنا نحلم بأن نصبح مستشفى القرى المجاورة.

كنا يافعين. وكنا نلهو في الحقول والجلول والسواقي. وكانت في خارج القرية مغاور او كهوف قديمة، لعلهم استخرجوا منها في الماضي الفحم الحجري. ولم نكن نجرؤ على دخول تلك الكهوف. كنا نتوقف عند مداخلها ونروح نتخيل ماذا في الداخل. وكنا نخاف. ولم يغامر احد منا بالدخول برغم تهور الصبا وجهالة اليفاع. فالكهف كان من زمن الكهف، ومن العصر الحجري، ونحن كنا نحلم بعالم افضل وبأن نقرأ على ضوء الكهرباء وان ندرس على دفء «الشوفاج»، وليس الحطب مثل اهل الكهف. وكنا نحلم ان تخرج الاجيال الجديدة من عناء الحقول والنقل على الحمير وتعذيب البغال العاثرة باحمال الرمل الثقيلة. وكنا نطمح الى ان يصبح المواليد الجدد اساتذة في الجامعة واطباء ومهندسين وكتاباً وتجاراً وعلماء.

لذلك جفلنا من منظر الكهوف. وهي لا تزال في مكانها الى الآن، الا ان احداً لم يغلبه الفضول لمعرفة ما فيها. فماذا سينمو في رطوبة الكهف وعتمته في اي حال؟ الطحالب والزواحف والطيور الجرذانية. لأن الطيور الجميلة تحب النور وعطايا الله والعافية التي ترافق الضوء واشعة الشمس. كان ذلك قبل ستين عاماً، اواخر النصف الاول من القرن الماضي. وفي نصف القرن الاول من القرن الحالي اقرأ اليوم مقالاً في مجلة «هاربر» لكاتبة اميركية قامت بجولة في قرى «وزيرستان» الباشتونية. ومع المقال صور عن تلك القرى. بيوت من الطوب الاصفر وطرقات ضيقة وروائح وجفاف وعتم وظلام. ومدرسة مغلقة مهجورة. ويعَّبر مختار القرية عن غضبه على ابنه: «انه مدلل ويريد العلم، بدل ان يعمل عملاً ذا فائدة». وتمسح ام وضعت وليدها البارحة، تمسح عينيه بالكحل من اجل طرد الارواح الشريرة. وتسأل الكاتبة تلك الأم عن عدد اولادها فتقول: «اثنان». ثم تستدرك لامبالية: «الا اذا حسبنا الابنة ايضاً». انها مخلوق آخر في العائلة، غالباً ما لا تعرف طعم الفاكهة التي يتناولها الاشقاء.

لا استطيع ان اتخيل قرية لا مدرسة فيها ولا كهرباء وتحلم بترك منازل الطوب والطين من اجل العودة الى الكهوف. لا حياة في الكهوف. والكهف يحول الانسان الى مخلوق ذي مشاعر مختلفة، الى كائن يألف الظلام والعتم ويهرب من النور والمعرفة. واذا كانت حياة الكهف هي مقياسه وحلمه ومطلبه ومرتضاه، فأي عالم سوف يبني واي عالم سوف يواجه والى اي عالم سوف يخرج.

هناك الكثير من السلاح في قرى «وزيرستان». فقط الكثير من السلاح. وهناك الكثير من الرجال الذين لم يفعلوا اي شيء في حياتهم سوى القتل والقتال. وهناك الكثير من المدمنين والمزارعين والمهربين. والناس تنتقل على الدواب والبغال. ولست ادري في اي عصر هي تلك القرى المسكينة التي ترفع الآن احلام العودة الى الكهوف. وأحمد الله على ما بلغته قريتي. ليس هناك بيت ليس فيه خريج ولا هناك بيت ليس امامه سيارة. والبنت نحسبها مع الاولاد في العائلة، من دون الحاجة الى استدراك. واذا توفر البرتقال في البيت، حق لها ان تأخذ واحدة، لكنها لا تعيش عمرها من دون ان تعرف ما هي البرتقالة، لأنها وقف على الفحول.

تفزعني فكرة تمجيد الكهوف وحياتها. لقد تركنا الاتراك خمسة قرون من دون مدارس وطرقات ومستشفيات. وعندما وقعت حرب فلسطين عام 1948 ربحها القادمون من مدارس اوروبا ومصانعها. ويرسل العالم العربي عشرات الالآف من الطلاب الى جامعات العالم كل عام من اجل ان تكون له الفرصة في هذا الصراع المرير وغير المتكافئ. ثم نحاول اقناعهم بأن الكهف هو الحل. وبأن البلهارسيا والبرص والرمد جزء من الطبيعة. وبأن النفط نقمة لا نعمة، لأنه منح الناس حق الحياة بالمكيفات في حرارة تصل الى 60 درجة مئوية في جزء كبير من السنة. والذين يكتبون ذلك من لندن وباريس وجبال لبنان لم يجربوا مرة واحدة ليل الخليج (وليس نهاره) في يونيو او يوليو او شهر ثمانية.