عطر الكتابة

TT

قد اكون مخطئا، وقد تكون الفكرة من ذلك النوع الذي ينتمي الى «العتيق البالي» الذي لا علاقة له «بالموضة» لكني ما زلت اعتقد ان الكاتب الذي يتحول الى بوق او الى ممسحة يفقد شريحة عالية من قرائه، ونسبة لا بأس بها من تقديره لنفسه، ويخرج حسب رأي الاغلبية من دائرة الاحترام.

وبعض هؤء لا غبار عليهم من حيث الاسلوب، ولا مشكلة معهم حين يتعلق الأمر بالمعلومات لكن الكارثة تكمن في انهم يفتقدون ما يمكن ان نسميه عطر الكتابة.

أين هو ذلك العطر...؟ ومِمَ تتكون معادلته الصعبة....؟ والى أي حد يجب توفره في الكتابة الصحفية السهلة السريعة...؟ التي تغري بكل انواع الانحراف الفكري والآيديولوجي والانساني، وتغري ايضا بالسمو والتعالي وتعزيز كل عناصر الكبرياء داخل الكائن ـ القارئ.

عطر الكتابة ـ كما اظن ـ هو التفاعل الكيمائي والانساني الخلاق بين المنتج للحروف والافكار وبين مستهلكيها، وهذا النوع من الاستهلاك ليس «كلينكسا» تستعمله وترميه ولكنه جزء من عملية بناء الشخصية والنموذج والرمز لذا تكون محنة القارئ الذي يفقد كاتبه كبيرة وغاضبة، فكم من قارئ اعتاد على كاتب على مدار سنوات ثم أفاق على نصبه واحتياله ونفاقه وجبنه، فغضب وأقلع عنه حزينا، وكأنه يودع الى القبر أحد أفراد عائلته او صديقا من أعز اصدقائه.

في تلك الصداقة التي تعيش مع من يحفظ كرامة الكلمة وتموت مع «الإمعات والمماسح» يوجد عطر الكتابة، وهو رشة احترام مع نفحة اعجاب يزينها احساس بالود لمن حضر، وبالفقدان لمن غاب، فان اضفت اليها المحبة والشعور بالتوحد مع من يحمل بعض افكارك واحلامك وأمانيك تجد سر السحر، وتفهم سبب الغضب والأسى والمقاطعة في حالة خيانة الكاتب لأساسيات الكتابة المحترمة.

وفي العادة يتوقع الناس تلك العلاقة الخاصة في الكتب وليس في الصحف السيارة او هكذا كانت الامور الى ان صارت الجرائد رفيقة الحل والترحال، فبدأ القارئ الجاد والعادي يبحث عن نموذجه وصنو روحه بين عشرات الأعمدة والزوايا، وبعضهم أوصل الامور الى درجة التعصب، وهناك تكون طعنة الانحراف أقسى وأشد وبالا.

ان القارئ يتوقع من الكاتب الذي يقع عليه الاختيار ان يكون على حجم الطموح وان يملك القدرة على الاستجابة للتحديات في المواقف الصعبة، وحين يراه يتخاذل او يهون، او ينافق ينهار برج من روحه، ويقلع عن القراءة كلها او يكتفي بمقاطعة من سبب له الجرح الغائر ونكبه بمن يحب، وبمن استصرخ صامتا اثناء الأزمة فلم يجد الجواب ولا اعتذر له أحد من فضاء المشاغل والصدى حيث ما كل ما يعلم يقال ويكتب.

عطر الكتابة ليس لغة، ولا معلومات، ولا طريقة عرض ولكنه ذلك كله باضافة صلة روحية تنشأ بين من يفهم وظيفة الكتابة بكل ما يليق بها من احترام وعمق وبين قارئ متوحد، ومشغول يلقي كل همومه على كتف كاتب بعيد، ويتوقع منه ان يكون صوته وصداه، وفارس معركة طموحاته وقناعاته.

وفي هكذا معارك يظل الخيار والقرار بيد الكاتب، فإما ان يكون فارسا بحجم الحلم الجامح، وبألوان الخيال المعطر، او يكون مجرد بوق، وممسحة.