رجاء، قبل ان تنصرف (3) ـ هيكل وتويني

TT

التقيت هيكل في معرفة حقيقية العام 1973 في «النهار». وتجمعني معه ومع الرئيس شارل حلو صورة في مكتب غسان تويني في الطابق التابع. هذا الطباق الذي تركه تويني قبل عامين متقاعداً من العمل اليومي، وعاد اليه قبل يومين هذه المرة رئيساً لتحرير «النهار»، الجريدة التي ورثها عن جبران تويني الأب، واورثها الى جبران تويني الأبن لكنه لا يزال صاريتها ورايتها والرجل الذي كنا شباباً نسميه «المعَّلم». وفيما يتقاعد هيكل في الثمانين، يبدأ غسان تويني المهنة من جديد في السابعة والسبعين. الاول صنع «الاهرام» الحديثة التي اسسها اللبنانيون الذين هاجروا الى مصر، والثاني صنع «النهار» الحديثة التي اسسها المهاجر العائد من مصر. وقد التقى الاثنان على القمة في المرحلة الذهبية من الصحافة العربية. وجمعت بينهما الصداقة والزمالة. وفرقت بينهما مقالات هيكل عن لبنان وحدته التي سببت له خصومات خاصة وعامة كثيرة. وكنت غالباً احاول التوفيق بين الرجلين. وغالباً ما اخفق. كلاهما يعتقد انه يتحدث باسم العقل العربي الواعي والصحيح.

اتفقت «النهار» ذلك العام مع هيكل على ترجمة وطبع كتابه «الطريق الى رمضان». واعطتني اعلى بدل ممكن لقاء ان اتولى ترجمته. وسوف يشير «الاستاذ» الى ذلك مع بضع كلمات مشكورة في مقدمة يعلن فيها العودة الى الكتابة بالعربية بعد رحلة طويلة من الكتابة بالانكليزية في صحف العالم. وبعد عام من ذلك اللقاء انتقلت الى رئاسة تحرير «الاسبوع العربي». وما لبثت حرب لبنان ان اندلعت. وفي خريف 1975 كنت في نيويورك لدورة الجمعية العمومية، وعلمت ان هيكل في نيويورك في فندق «بيار»، وهو احد الفنادق الشديدة العراقة والكلاسيكية التي يختار «الاستاذ» النزول فيها، خلافاً للفنادق الكبرى والحديثة واللماعة. ويجب على من يرى هيكل في بهو ان يراه في فندق كلاسيكي. وعلى من يأتي لشرب القهوة معه ان يتناولها في بهو تاريخي التقى فيه من قبل الزعماء والرؤساء وصنّاع الاحداث.

كان اول ما سألني «الاستاذ» وهو ينفض السجار بعصبية، لماذا تركت «الاسبوع العربي». وقال لي مؤنّبا «هوه فيه رئيس تحرير بيسيب مكانو؟». ولم يكن يدري انه يخاطب رجلاً لم يترك مكاناً الا و... تركه ثم سألني في حرص، «والآن ماذا ستفعل»؟ هل ستعود الى «النهار»؟ وقلت له انني حائر، ولا ادري ان كانت المعارك في لبنان سوف تطول. وسألته رأيه، فحاول تغيير الموضوع. وعدت اسأله عن رؤيته، فقال كأنه شخص آخر يجيب ولا علاقة له هو بما يقول: «سوف تطول»!

وقبل ان اتركه لك اغيب في المجهول والغربة والقلق، لم يشأ «الاستاذ» ان يتركني اذهب من دون تشجيع ما، من دون ان يحملني توصية ما، فقال: «اياك ان تتوقف عن الكتابة. انت واحد من اربعة اقرأهم في العالم العربي». وخطر لي بكل ضعف ان اجعله يشدد على ذلك، بان أسأله من هم الثلاثة الاخرون. لكن الافادة الاولى من الاستاذ كانت كافية. امض يا رجل بما سمعت. وبعد اكثر من ثلاثين عاما على ذلك اللقاء كتبت الصيف الماضي زاوية استذكر فيها ايام هيكل وبهاء في «الاهرام» ورأى الاستاذ ابراهيم نافع في ذلك اساءة له ولدوره ومرحلته في الجريدة، فكتب يقول ان ما كتبت هو «جزء من حملة لعزل مصر». وبصفته رئيساً لتحرير «الاهرام» ورئيسا لاتحاد الصحافيين العرب اسبغ عليّ لقباً جديداً لا علاقة له اطلاقا بشهادات هيكل. لقد وصفني بأنني «كاتب الغرائب والطرائف» في «الشرق الأوسط». افندم.

الى اللقاء.