مخاطر الحكم عن طريق الابتزاز

TT

اختتم في الاسبوع المودّع المؤتمر السنوي لحزب العمال البريطاني الحاكم وما هي الا ساعات معدودات الا وتبدأ فعاليات منافسه الرئيسي حزب المحافظين. وكان الحزب الثالث الناشط على المستوى الوطني في بريطانيا، أي حزب الديمقراطيين الأحرار، قد اختتم مؤتمره قبيل افتتاح العمال مؤتمرهم.

المشهد السياسي البريطاني هذه الايام معقّد ومضطرب لكنه قليل الاثارة، والسبب ان «مؤسسة السلطة» الفعلية في البلاد مرتاحة الآن للحكم عبر حزب العمال الذي تحقق لها قيادته الحالية معظم طلباتها بأدنى قدر من المشاكل، متجاوزة المطالب الكلاسيكية للقاعدة الشعبية العمالية. ومما يعزز هذه الحالة «البراغماتية»، البعيدة عن الديمقراطية الخالصة، ان البديل المحافظ حكم على نفسه بالنفي الطوعي عن مقاعد الحكم. فالمحافظون سمحوا لقيادة حزب العمال بالاستحواذ على مواقفهم وبرامجهم، ورغم اكتشافهم ما حصل لم يحاولوا العودة الى وسط الساحة، بل هربوا ابعد الى مواقع أكثر يمينية وتشدداً، فهمّشوا انفسهم وفقدوا قطاع الناخبين الوسطيين غير الملتزمين الذين اجتذبهم المحافظون خلال الثمانينات وحتى منتصف التسعينات عندما كان العمال يرفعون شعارات اليسار المتشدد.

لقد شاهد البريطانيون وسمعوا كيف واجه توني بلير حزبه في المؤتمر الحزبي السنوي بمنتجع بورنموث (جنوب غربي انجلترا). وتابعوا التحدي والتحدي المضاد داخل ردهات المؤتمر. وبدا واضحاً للجميع ان بلير ما عاد «يحكم» او«يقود» حزبه من منطلق محبة القاعدة العمالية له وثقتها به، بل من منطلق خوف هذه القاعدة من تبعات التسبب في شق الحزب، وبالتالي السماح بعودة «العدو» المحافظ الى السلطة.

فالحقيقة التي تجلت في الخطب والمناورات (بالذات داخل الكواليس) والتصويت على جدول الأعمال، أشارت الى ان ثقة المحازب العمالي بقيادته اهتزت ربما الى غير رجعة. وان هذا المحازب يدرك تماماً ان بلير ماض قدماً في ابتزازه، سواء في مجال السياسات الاقتصادية والخدمات العامة الصحية والتربوية، او السياسة الدولية وفي مقدمها حرب احتلال العراق. ولكن في المقابل، يرى المحازبون ان «نار بلير» تظل أخف وطأة من «جنة المحافظين». وبالتالي حتى اذا تنكّر زعيمهم لنصف مطالبهم وتلكأ في تحقيق النصف الآخر فان خسائرهم ستظل أقل مما سيمنون به تحت حكومة محافظة يمينية متطرفة، متضامنة آيديولوجياً مع «المحافظين الجدد» في واشنطن.

هنا جوهر الولاء الحزبي... والاضطرار لقبول خيار «أهون الشرّين».

الا ان المقترعين الذين صوّتوا عامي 1997 و2000 لحزب العمال ليسوا كلهم من الحزبيين الملتزمين. وبناء عليه لن يضمن بلير نجاح ابتزازه مع الكل. فثمة ارقام حزبية تشير الى تراجع مطّرد في عدد الأعضاء المنتسبين، كما أكدت الانتخابات الفرعية الاخيرة في لندن، بجانب الانتخابات المحلية والأوروبية الاخيرة، الى ان كثيرين من مؤيدي يسار الوسط في بريطانيا ما عادوا متحمسين للتوجه الى مراكز الاقتراع للادلاء بأصواتهم لمرشحي حزب العمال. ومن الظواهر اللافتة التي تأكدت ايضاً في انتخاب لندن الفرعي الاخير ان الناخبين العماليين مستعدون حتى للتصويت ضد الحزب في الدوائر التي يشكل فيها الديمقراطيون الأحرار ـ لا حزب المحافظين ـ القوة الرئيسية المناوئة له. وفي هذا مؤشر خطير جداً.

ان انظمة الحكم الديمقراطية تسمح للقادة بسلوك طريق التجربة والخطأ، وتسمح لهم أيضاً بتبني سياسات مكروهة احياناً، الا انها لا تسمح للقادة بشيئين; الأول تضليل الناخبين بالكذب عليهم، والثاني التعالي عليهم الى حد اعتبار ولائهم مضموناً «في الجيب» ـ او كما يقال احياناً «من قبيل تحصيل الحاصل».

وقد جرّب ريتشارد نيكسون التضليل في «ووتر غيت» فانكسر، وجرّبت مارغريت ثاتشر اسلوب «تحصيل الحاصل» فكسرها حزبها. والمشكلة مع بلير اليوم انه يجازف بتجربة المغامرتين القاتلتين معاً.