صيغة النظام اللبناني ... قبل إفرازاته

TT

لا يختلف لبنانيان على أهمية، بل الحاحية، اصلاح «ما أفسده الدهر» في نسيج الادارة والسياسة والاقتصاد والمال في وطنهم ، خاصة أن الدهر المفسد في هذا المجال ليس وليد البارحة كون جذوره تمتد الى خمسة قرون من حكم عثماني امبراطوري خلّف بصمات دخيلة على التقاليد الاجتماعية في لبنان وكرس ذهنية «البخشيش» في عمل الادارة العامة.

أي خلاف على هذا الصعيد قد ينحصر في شأنين:

ـ تحديد من اين يبدأ هذا الاصلاح ، وكل أجهزة الدولة ، مدنية كانت أم غير مدنية، تتقاسم بجدارة عوارض «العثمنة» (ان صح هذا التعبير في وصف إرث الفساد العثماني).

ـ التسليم بمن سيكون ذلك «المارد» اللبناني المؤهل لتنفيذ الاصلاح دون الخضوع للاعتبارات الفئوية والمذهبية التي أفشلت المحاولات الاصلاحية لأكثر من «عطار» واحد.

في أجواء «ديمقراطية الردح» التي ينعم اللبنانيون بحرياتها الكلامية ، لم يوفر أحد فرصة التنديد بالفساد والهدر وحتى بالسرقة المكشوفة للاموال العامة. وإذا أخذت تصريحات معظم السياسيين ورجال الدين على عواهنها يبدو لبنان اليوم وكأنه في سباق بين اصلاح النظام من داخل النظام أو مواجهة انهيار شامل لهذا النظام قد يطيح بكل مقومات «المعجزة اللبنانية» القائمة، اليوم، على الفساد والمحسوبية والمذهبية .

حتى «حزب الله» ، الذي أرسى طروحاته السياسية في لبنان على أولوية المقاومة المسلحة للاحتلال الاسرائيلي، يعلن الآن بلسان رئيس مكتبه السياسي: «لم نعد نستطيع ان نكمل في المقاومة ببلد انتهى وفيه شعب يجوع».

بالنسبة للمراقب الخارجي، يبدو لبنان اليوم أشبه ما يكون بحال فرنسا في اواخر عهد الملك لويس السادس عشر: السلطة بيد طبقة من «نبلاء المال» تنافسها على مواقعها طبقة بورجوازية تنكر علىها الاستئثار بالسلطة والمال معا وتسعى جاهدة لان تضمن مشاركة أوسع في مواقع القرار ـ من منطلق الطموحات الشخصية لا الرؤية الايديولوجية. وبموازاة الطبقتين المتنافستين على مكاسب الحكم، تقبع شريحة اجتماعية واسعة هي أقرب ما تكون الى الطبقة التي كانت تسمى في عهد لويس السادس عشربال ( Tiers - Etat) ـ «الفئة الثالثة » أو «العامية» المشكلة من العمال والفلاحين وصغار المأجورين والتي أصبحت، مثل «الفئة الثالثة» الفرنسية ،الأكثرية المطلقة والمغلوبة على أمرها في المجتمع اللبناني.

وحتى على الصعيد الحياتي العام ، يعاني اللبنانيون اليوم من وضع أقرب ما يكون الى ما عاناه عامة الفرنسيين أيام لويس السادس عشر: وطأة مديونية متنامية للدولة تقابلها اعباء ضريبية متزايدة تغذي، بدورها ، فجوة متسعة باطراد بين القادرين والمعدمين... وكل ذلك وسط حال من التخبط في موقع القرار بلغ حد شلّ آلية صنعه في مجلس الوزراء.

حتى الآن، يبقى الفارق الابرز بين وضع اللبنانيين اليوم ووضع الفرنسيين عام 1789في ما توفره هجرة النخبة والشبان من مساهمة في تخفيف عبء الضائقة المعيشية في وطنهم وفي دور التشرذم المذهبي في امتصاص النقمة الاجتماعية والحيلولة دون تحولها الى قضية عامة تقدم المشكلة المعيشية على الحسابات المذهبية.

من هنا السؤال :من اين يبدأ الاصلاح في لبنان بعد أن أظهرت التجارب السابقة فشله في اختراق المتاريس الطائفية التي تنتصب بوجهه بمجرد التلويح به؟

المنطق السياسي العادي يفترض ان يبدأ من ذهنية جديدة تسقط الاعتبارات الطائفية من متطلبات الاصلاح... فمن المكابرة انكار كون المذاهب في لبنان هي احزاب لبنان الحقيقية و"لوبيات" الضغط الفعالة التي أفشلت محاولات الإصلاح السابقة .ولكن ذلك يتطلب، بدوره، البدء باصلاح النظام السياسي القائم ... فالفساد ، في نهاية المطاف ، أحد افرازات هذا النظام المبني على توازنات طائفية تلغي القرارات الجذرية في معظم الاحيان.

عبثا يأمل اللبنانيون باصلاح حقيقي ما لم يعمدوا، أولا، الى فك الارتباط العضوي بنظامهم وتركيبته الطائفية القائمة. وإذا كانت المرحلة الداخلية والاقليمية تجعل من الصعب الغاء الطائفية السياسية بشحطة قلم، فاضعف الايمان السعي لاحتواء ضغوطها على القرار السياسي بتعديل جريء للدستور يلغي نظام التوزيع الطائفي الثابت للرئاسات اللبنانية، ويؤسس مجلسا رئاسيا من ممثلي الطوائف اللبنانية الرئيسية يختار من اعضائه رئيسا للجمهورية تقتصر ولايته على سنة واحدة فقط ، فيفتح بذلك لكل الطوائف اللبنانية فرصة التناوب على موقع الرئاسة لسنة واحدة في اطار نظام مداورة على الطريقة السويسرية، كما سبق لرئيس الحكومة الراحل، صائب سلام، أن اقترح إبان الحرب الاهلية اللبنانية.

عندئذ يمكن تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية بحيث يصبح النظام شبه رئاسي (بعد حظر الجمع بين رئاستي الحكومة والبرلمان وعضوية المجلس الرئاسي) ويمكن أيضا البدء باصلاح إداري جدي لا يبدأ «بالطبل والزمر» وينتهي بالاطاحة بـ 3 أو 4 رؤوس من صغار «المفسودين» فيما يظل «المُفسدون» متربعين سعداء على سدة الارث العثماني.