وعيّر قساً بالفهاهة باقلُ...

TT

تطوّرات الأيام الأخيرة في المنطقة العربية تنذر بتداعيات أخطر مما كان يتوقعه المتشائمون، وكاتب هذه السطور منهم. ولكنني لا أدري بالضبط على أي مرتكز ترتكز نظريات أولئك الذين يفلسفون هذه المرحلة ويدعون، بنبرة من التفاؤل، الى مردود الاستسلام الشامل بلا قيد أو شرط.

أيضاً أقف مندهشاً ـ وهذا وضع غريب لمن دخل العقد السادس من العمر ـ من السخرية الفاقعة التي يقابل بها أولئك الذين هبطت عليهم من السماء «نعمتا» الواقعية وبُعد النظر في السياسة... مناصري الاتجاه الآخر من المغضوب عليهم والضالين أمثالنا.

فما اعتدناه من قراءاتنا المدرسية المتواضعة وحكايات اجدادنا الفولكلورية ان من يخذل أهله في الزمان الغابر كان يحرص على الاستتار ويخجل من المجاهرة بمحالفة من يقف شاهراً سيفه ضد بني قومه. لكننا على ما يبدو تطورنا الى حد ما عادت تكفي معه «فلسفة» الاستسلام وترويج فضائل الذل والهوان، بل صار ضرورياً القدح والذم في كل من «اختشى» فاعترض ...سواء مات او لم يمت.

بكلام آخر تغيّرت المعايير، أو بلغة العصر، تغيرت «شروط اللعبة».

فاخواننا من الواقعيين الشتامين والشامتين يشمتون اليوم بهزائم أمتهم ومعاناتها حتى لو كانوا عاجزين عن ايجاد بدائل أقل ايلاماً، وهم يسخرون من القادة الذين حاولوا وفشلوا، مع ان مصير وصفات الاستسلام المجّاني ـ وهي البديل الذي يروّجون له - لم تقدم الحصيلة المرجوة، تماما كما لم تضمنها نوبات التعصب المنغلق الانتحاري.

الحقيقة المؤلمة ان الخصم، سواء كان آرييل شارون أو تيار داعميه من «ليكوديي» واشنطن، ما عاد يهتم كثيراً بأصول التهذيب والنيات الطيبة في العلاقات الدولية. ومن المضحك المبكي ان حقد هذا العدو بالذات، لا حصانتنا ولا وطنيتنا، هو الذي يحول اليوم دون رضاه باستسلامنا لأنه ما عاد يكتفي بالاستسلام. فمدرسة «الليكود» باسرائيلييها واميركييها، بعربها وعجمها، لا تريد ان تأخذ أسرى. لا تريد هدنة. لا تريد مساومة. لا تريد حسن جوار. لا تريد جيراناً.

لقد اعلنت هذه المدرسة، على لسان «مديرها» الرئيس جورج ووكر بوش و«ناظرها» الجنرال شارون، بصراحة وبالصوت العالي ما تريده منا حقاً، لكن بعض اخواننا ما زالوا يفترضون حسن النية، ويأبون تصديق ما يرونه وما يسمعونه.

فالمستر بوش اختصر حكم القضاء والعدالة ومبدأ «المتهم بريء حتى تثبت ادانته» في معاقبة من قرر انهم «ارهابيون» بكلمتي «أناس سيئون» من دون تمييز بين «الارهابي» الالغائي المتعصب و«المناضل» صاحب المظلمة والحق. وشارون وزبانيته من رواد التطهير العرقي والديني يسيرون باتجاه «الترانسفير» والحرب الاقليمية بخطوات واثقة وضوء أخضر من واشنطن. والواضح الآن ان ثمة تماهياً كاملاً بين مشروعين «ليكوديين» عالمي واقليمي: الأول يضطلع به «ليكوديو» البنتاغون وقد عبر عنه الرئيس بوش ببلاغة تامة في تضامنه التام مع اسرائيل في تحركها ضد سورية، وردد اصداءه جون نيغروبونتي السفير الأميركي في الأمم المتحدة، الذي اتهم دمشق بانها «تقف مع المعسكر الخطأ في الحرب على الارهاب»، مميزاً بالطبع «الارهاب» الفلسطيني ...عن «نضال» عصابات الكونترا وزمر الاغتيالات والخطف والتعذيب في اميركا الوسطى الذي يعرفه جيداً.

والثاني ينفذه شارون مع اركان حربه ممن هم على شاكلة شاول موفاز وموشيه يعالون وافيغدور ليبرمان ابتداء من الأراضي الفلسطينية المحتلة باتجاه لبنان وسورية وايران، وكل من تسوّل له نفسه مناهضة النظام الاقليمي المفروض.

مع هذا، هذه الأيام نرى طارئين على التحليل السياسي الرصين يلاحقون بمفعول رجعي، وبلغة عربية فصيحة لا تداخلها عجمة، نفراً من قادتنا الراحلين متهمينهم بأنهم قادونا الى التهلكة بمغامرات «غير محسوبة» وطموح خداع عديم الواقعية، ويرشقون بعض مفكرينا بالديماغوجية و«دغدغة عقد العظمة الكذابة» عندنا. لكنهم في المقابل بالرغم من واقعيتهم يحثوننا على المضي قدماً في تصديق كذبة ما فتئوا يرددونها على أسماعنا كل يوم كي نعتاد عليها ... فنتوهّم انها صحيحة.

وبذا أضحوا أكثر غيرة على توجهات السياسة الأميركية الحالية من عسكري اميركي كالجنرال ويزلي كلارك، القائد الأميركي السابق لقوات حلف شمال الأطلسي في اوروبا، وأكثر ميلاً للموافقة على استراتيجية آرييل شارون من سياسي اسرائيلي كرئيس الكنيست السابق ابراهام بورغ!

نقطة البداية كانت مع احتكار «الليكوديين» حق تعريف «الارهاب» وابتزاز الآخرين به.

من هذه النقطة بدأ التسلسل المنطقي والمأساوي للأحداث في غياب المناقشة الجادة المطلوبة. وها نحن اليوم نحصد ثمن هذا الاحتكار، بعدما نصحنا اخواننا من الواقعيين بأن اي مجادلة في هذا الأمر مضيعة للوقت، وبأن الخيار الوحيد هو مباركة الحرب المعلنة على الارهاب لأن من شأن هذه المباركة تحييد أصحاب مشروع الحرب، وكسب رضاهم.

يا له من تحييد، ويا له من رضى.