أمل لبنان وسورية في «الاستقلال» في النظام العالمي الجديد

TT

لم يبق في الميدان سوى سورية ولبنان ...

والميدان المقصود هو ميدان التحرك المستقل (نسبيا طبعا) في تحديد الدولتين لسياستهما الدفاعية وفي اتخاذهما لقراراتهما الامنية خارج اطار نظام الهيمنة الاميركي المطبق عليهما من الشرق (العراق) والغرب (اسرائيل) معا.

في اعقاب الاحتلال الاميركي ـ البريطاني للعراق، والتحرش الاسرائيلي العسكري بسورية، والتصعيد الليكودي في قمع الانتفاضة الفلسطينية، والشبق التركي لدخول العراق من نافذة المأزق الاميركي... أصبحت سورية ولبنان، لا العراق، بحاجة الى قوة دولية تحميهما من أخطار لم يعد واردا حصرها باسرائيل فقط في ظل التطابق المتنامي بين المصالح الاميركية والاسرائيلية في الشرق الاوسط.

وعلى هذه الخلفية، يبدو حرص الرئيس الاميركي جورج بوش على تبرير القصف الاسرائيلي لمخيم «عين الصاحب» في سورية والاعراب، بسرعة لافتة، عن دعمه لـ«حق» اسرائيل في الدفاع عن نفسها ـ المختلف تماما عن حق «الارهابيين» الفلسطينيين في الدفاع عن ارضهم المحتلة ـ ومسارعة منسق الامم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الاوسط ، تيري رود لارسن، الى ابلاغ لبنان وسورية «القلق الدولي الشديد» من الوضع الامني وتشديده على ضرورة ضبط النفس... وجهين لعملة واحدة هي: النظام الشرق أوسطي الجديد الذي يبدو انه اختصر «النظام العالمي الجديد» الذي بشّر به جورج بوش الاب عام 1991.

كنا، في لبنان وسورية، تحت وصاية «الوكيل» ـ التي تمارس بخروقات جوية شبه يومية لاجواء البلدين وبتهديدات سافرة لهما وبقصف صاروخي عند اللزوم ـ فاصبحنا تحت وصاية الاصيل والوكيل معا بعد ان حطت الولايات المتحدة رحالها كجار عزيز على هلالنا الخصيب في بلاد الرافدين.

واللافت أن كل يوم يمضي على«الوجود» العسكري الاميركي في العراق، والاحتلال الاسرائيلي للضفة والقطاع، يقرب الرابطين الايديولوجي والاستراتيجي بين واشنطن وتل ابيب من العدو المشترك: الارهاب ـ مجازا ـ والعرب واقعا... ويضيق الخناق على سورية ولبنان.

وقد تكون المفارقة المقلقة بين وضع سورية ولبنان اليوم ووضعهما في نهاية الحرب العالمية الثانية أن الدولتين المهيمنتين على المنطقة آنذاك ، أي فرنسا وبريطانيا، كانتا تخوضان صراعا خفيا على الاستئثار بالهيمنة في الشرق الأوسط ، فاتاح هذا التناقض بين مصالحهما فرصة مواتية لنيل سورية ولبنان استقلالهما.

أما اليوم، وحتى الان على الاقل ، فان الدولتين المهيمنتين على المنطقة، اي الولايات المتحدة واسرائيل ، متفقتان على فرض شكل من أشكال الاستعمار غير المباشر على لبنان وسورية.

لم يعد خافيا، في ظل المعطيات السياسية والعسكرية الراهنة، ان التوازن الاقليمي في الشرق الاوسط أصبح أسير الهيمنة الاميركية الأحادية على العالم، من جهة، والامتطاء الاسرائيلي لموجة المصالح الاميركية في الشرق الاوسط، من جهة ثانية. وذلك يعني، ان استقلال القرار اللبناني والسوري عن «الارادة» الاميركية ـ الاسرائيلية أصبح، بدوره، رهين قيام توازن دولي جديد يخلف الثنائية الدولية السابقة التي انهارت مع انهيار الكتلة السوفياتية في مطلع التسعينات، يوفر للدول الصغرى هامش تحرك استقلالي أوسع.

قد يكون من المبالغة بشيء الحديث عن إمبريالية جديدة في عصر الزعامة الاميركية الاحادية، وان كان النزوع الامبريالي حصيلة طبيعية لشعور الاميركيين بأن بلادهم قوة عظمى لا تقهر. ولا يبدو هذا الشعور جديدا على خلفية ما سبق لونستون تشرشل، رئيس الحكومة البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية، أن كشفه عن اقتراح للرئيس الاميركي الاسبق، فرانكلين روزفلت بان تستتبع انتهاء الحرب العالمية الثانية عملية تجريد سلاح لكل دول العالم، باستثناء الولايات المتحدة.

ولكن المشكلة تبقى في الهاجس الامني الطاغي على ذهنية الادارة الجمهورية في واشنطن الذي يربط بوضوح أمن الولايات المتحدة في الداخل بمدى هيمنتها في الخارج... وإذا كان احتلال العراق أبرز تصادم مفهوم التفرد الاميركي في الهيمنة على العالم مع سعي فرنسا والمانيا وروسيا لايجاد نظام توازن قوى مشترك ، أوروبي ـ أميركي، فقد يكون الرفض الاميركي للتنازل عن موقع الزعامة الأحادية وما يستتبعه من «استقلال» الدول الاوروبية الرئيسية عن مشروع الهيمنة الاميركية الأحادية... بداية أمل لبنان وسورية في تحقيق «استقلال» جديد عن الارادتين الاميركية والاسرائيلية في الشرق الاوسط.

والى ان «تستقل» اوروبا عن أميركا، وتسمح بذلك بريطانيا، قد تنحصر طموحات لبنان وسورية في تدارك المزيد من التآكل في استقلالهما ــ الهش أصلا.