الخروج إلى الحرية

TT

قبل اي شيء، اهلاً بالدكتور حسن الترابي في عالم الاحرار والضوء، فما ابشع السجن وما احطه، صغيرا كان، كالنفس العربية الخائفة والمرتعدة، ام كبيراً كان، كالوطن العربي، الذي يصرف الارواح بلا حساب في سبيل الاستقلال، ويقبل العبودية بلا حساب في مسألة الحرية. ثم اهلا في كل حال.

انها لمفاجأة سعيدة، خطوة الافراج عن جنابكم، لكنها غير مفهومة، تماماً كما كان اعتقالكم مفاجأة غامضة وغير مفهومة. وليس للناس ان تفهم في اي حال. لها فقط ان تفاجأ، وان تودع الداخلين الى السجون وتستقبل الخارجين منها. هذا اذا كانوا ذوي حظوظ اقوى من غضبة الجماهير وارادة الجماهير واخلاص الجماهير للمهتوف له: بالروح، بالدم. غير انه قد لفت انظارنا ان اول المتصلين بجنابكم كان الزعيم العزيز غارانغ. ولفت انظارنا من قبل (عن غير قصد) ان جنابكم الداعي الى تطبيق الشريعة في السودان، كنتم اول من عقد اتفاقاً مع غارانغ الداعي الى العكس. فكيف؟ ثم لفت انظار الرعية ان خروجكم من المعادلة السياسية في ام درمان ودخولكم الى السجن والاقامة الجبرية، قد سهل الاتفاق ما بين الفريق البشير والزعيم الانفصالي، وتم الاحتفال باتفاق مشاكوس (او شيء من هذا القبيل) خلال مرحلة الابتعاد عن الجهاد الذي اعلنتم دوامه واستمراره لحظة صدور العفو المفاجئ.

الحقيقة ياعزيزي الدكتور ان سحابة من الغموض العميق تغلف كل شيء. ففي عز تحالفك مع البشير كنت تبدو انت القوي وهو الشريك الاضعف برغم عصا الماريشالية واوسمة الصدر. وكان يقال انك تخفي وراء ابتسامتك الدائمة مليون ميل مربع من السودان. ويومها لم يبق في الخرطوم اسم علم واحد الا وارسل الى القاهرة او جنوب لندن. وحتى الطيب صالح حكم عليه بالنسيان، باعتبار ان القاعدة العربية تقضي، ان يكون هناك زعيم واحد واديب واحد وان يكون الاثنان واحداً و«ماكو زعيم الا كريم».

كانت هناك اشياء كثيرة بعيدة عن فهم الناس: الصادق والانصار والخاتميون في الخارج، والرفيق كارلوس يزين ليالي الخرطوم. ثم ذات صباح السنيور كارلوس في سجن «لاسانتيه» في باريس. ثم مواجهات السودان مع كل الجوار، عرباً وافارقة وبين بين. ثم حافة الحرب مع اريتريا. ثم حلايب وما ادراك يا سيدي ما ادراك ما حلايب، ثم اديس ابابا والمحاولة على حياة الرئيس مبارك. ثم حافة الحرب مع مصر.

ثم فجأة ذلك الطلاق المذهل بين عمامة النظام وقبعته. وبين الثوب الابيض والصدر الموشى بالاوسمة. وبين المدني الرافض كل شيء والعسكري الذي يفتح ابواب العودة امام المنفيين نصف فتحة. عودوا الى ظلنا وتفيأوا مظلتنا. وشيئاً فشيئاً تستبدل حافة الحرب مع مصر بعناق مع الرئيس مبارك. وتختفي حلايب، ولله الحمد، من عناوين الصحف. وتزول حافة الحرب مع اريتريا. ولا يعود السودان يحلم باقامة امبراطورية كبرى وانما باستعادة الملايين الذين طفقوا يبحثون عن الرزق في كل مكان ويعقدون جلسات «المامبو» حنيناً الى حداء المساء على النيل.

ايها الدكتور العزيز: ثمة اتفاق عربي عام على مدى قوة شخصيتك وعلى ذكائك وعلى سحرك في الناس. وبعد هذه التجربة المريرة في الاسر ارجو ان تعلم مريديك في البلدان ومحبيك في السودان، معنى ان يكون الانسان حراً في بلده وارضه. وان الحرية اعظم بكثير من الاستقلال واحق.