ضرورة مواجهة عوائق المشروع التحديثي

TT

هيمن خطاب المطالبة بضرورة إصلاح نسيجنا الثقافي وتجديده على اهتمام العديد من الدوائر الفكرية والإعلامية بعد زلزال 11 سبتمبر 2001 ، ذلك ان الكثيرين مالوا إلى النظر لما حدث بصفته صدمة حضارية عنيفة كشفت عن حجم القطيعة الحادة بين المسلمين ومن حولهم. وإذا غضضنا الطرف عن بعض الكتابات العدوانية، وتركنا جانبا الترهات الاستفزازية من نوع ما كتبت أوريانا فالاشى وميشل هودليك، أمكننا الإشارة إلى مقاربة تتمحور حول منطلقين منهجيين أساسيين:

أولهما: ضرورة معالجة نص خطابنا الثقافي داخل التقليد الذي ينتمي إليه، مما يعني عمليا إخضاع هذا النص لمناهج النقد والتأويل والقراءة، وذلك لغرضين مترابطين هما: من جهة، تبيان تاريخيته والكشف عن حدود مجاله المرجعي. ومن جهة أخرى، تقويض بنيته الوثوقية، لفسح المجال أمام القيم الإنسانية التحديثية التي هي شرط الانتماء للعصر والاندماج في منظومته الكونية.

ثانيهما: تطبيق مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة وفلسفات التأويل الجديدة على نص خطابنا الثقافي، من حيث هو خطاب لغوي يستجيب لآليات التفكيك والقراءة التي طبقت على مختلف النصوص.

ولئن كان الهدف من المنطلق الأول تنويريا نضاليا، فإن الغاية من المنطلق الثاني «تدميرية، هادمة» (حسب المقولات المـألوفة في النقد التفكيكي ذي الجذور النتشوية الهايدغرية).

ولا بد من التذكير بدءا أن مدار الخلاف مع أصحاب هذه المقاربة ليس الوعي بضرورة إصلاح نسيجنا الثقافي وتجديده، فلا أظن ثمة من يخالف في وجاهة هذا المطلب سوى المتطرفين المتزمتين. كما أننا نعتقد، بصدق، أن الإصلاح المطلوب لا يمكن أن يتم من دون استيعاب الشبكة التأويلية المعاصرة والاندماج في المرجعية القيمية الكونية الجديدة. بيد أن التجربة الغربية التي تقدم نموذجا للإصلاحية المقترحة، تبين بجلاء أن الإصلاحات الفكرية والثقافية التي عرفتها المجتمعات الغربية لم تكن لتنجح من دون توفر شرطين أساسيين هما:

ـ التموضع داخل الديناميكية النظرية الداخلية لتقليد متصل على الرغم من تقطعه وانفصالاته. وذلك هو معنى الصياغة التأليفية الهيغلية التي قدمت نموذجا متكاملا لضبط محطات تشكل ونمو العقل (الأوروبي) من ابنائه اليوناني على شكل كلية مجردة، مرورا بلحظة الوعي بالذات في العصور الحديثة، انتهاء بلحظة الوعي المطلق بالتاريخ المتجسد في الدولة القومية.

ـ التفكير من داخل المجال التداولي القائم كما تصوغه اللغة من حيث هي رحم الانتماء و«مسكن الوجود». فغني عن البيان أنه لا سبيل لفصل التحولات الفكرية الكبرى في الغرب عن الإمكانات التي يوفرها فضاؤه التداولي، سواء تعلق الأمر بالمنطق اليوناني والميتافيزيقيا المرتبطة به ـ فهو بمثابة نحو اللغة اليونانية كما أدرك اللغويون العرب الأوائل ـ أو تعلق بالعقلانية الحديثة وتحولاتها، كما بين بعمق خاتم الفلاسفة الأوروبيين هايدغر.

ومن هنا ندرك أن المشاريع الفلسفية التي قدمت في العصر الإسلامي الوسيط من منظور المرجعية اليونانية (كمشروع المدينة الفاضلة للفارابي)لم يكتب لها النجاح وظلت معزولة في بعض دوائر النخبة، وكذا حال العديد من المشاريع التنويرية التحديثية التي اكتفت بالتبشير النضالي الساذج بقيم ليس الخلاف حول جدوائيتها وحاجة المجتمع العربي الإسلامي إليها، وإنما مكمن الإشكال في أنها قدمت في شكل وصفات جاهزة مجتثة من إطارها المرجعي التداولي الأصلي من دون سعي حقيقي لتأصيلها فـي الأرضية النصية القيمية الإسلامية.

صحيح أن الإشكال النظري الكبير الذي يظل غير محسوم هنا ولا يتجرأ إلا القليل على طرحه هو: هل ان الأرضية الاسلامية الثقافية عاجزة عن استيعاب واحتضان البديل التحديثي المطروح؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هو مصدر هذا العجز، هل هو خلل بنيوي في مستوى الرؤية، أم هو خلل عرضي في مستوى المنهج؟

الاجابة تحتاج الى الغوص في تفاصيل كثيرة، لذا اختم بالاشارة الى حوار شيق تابعته مؤخرا على صفحات جريدة «الفيغارو» الفرنسية، حول واقع ومستقبل الفلسفة المسيحية، إذ تسنى لي أن ألاحظ، باندهاش، حيوية هذا الاتجاه الذي ينتمي إليه بعض ألمع العقول الغربية المعاصرة، ولا يزال تأثيره ملموسا وحيا في الحقل الثقافي الواسع. بل إن الفيلسوف التفكيكي الإيطالي الكبير، جاني فاتيمو، يذهب في أعماله الأخيرة إلى إعادة اكتشاف النص المسيحي، معتبرا أن مستقبله وضاء بعد انحسار مقاييس الحداثة التي حجبت أبعاده اللاهوتية الرحبة.

إن ما نريد أن نخلص إليه هو أن الخطوة الأولى التي يتعين على الإصلاحيين الجدد القيام بها هي إعادة بناء تصورهم النظري لعلاقة التحديث بالخطاب الموروث، بدل الانجراف في معارك خاسرة تشكل في ذاتها عائقا جوهريا من عوائق المشروع التحديثي العربي الإسلامي.