مثقفون لايثقون بالحرية

TT

لدى المثقفين الامريكيين والاوروبيين تاريخ طويل من عدم الثقة في الساسة والمفكرين من ابناء الدول المقموعة، الذين ينضالون من أجل نفس الحريات السياسية والاقتصادية التي تتمتع بها عوالمنا. والدافع الرئيسي وراء عدم الثقة هو اعتقاد المثقفين الغربيين ان اولئك المناضلين لا يمثلون الوطنية الحقيقية لأن ما يهمهم هو ان يصبحوا مثلنا أوهكذا يبدو الأمر بالنسبة لهم.

واستطيع تفهم دوافع اساتذة السوربون واولئك الاداريين الموضوعة اسماؤهم على قائمة الانتظار في معهد بروكنجز وكيندي سكول بجامعة هارفارد، فهم يتصرفون على عكس جورتيشو ماركس عندما رفض الانضمام الى أي ناد يطلب عضويته، فالعوالم التي نعيش فيها لا تقبل اعضاء يؤمنون بمجتمع السوق الحرة التي يعيشون فيها من اعماقهم.

لكني أجد صعوبة في تفهم الاسباب التي تدفع بالرئيس بوش وكبار رجال ادارته للتعامل بهذه القسوة وهذه الدرجة من عدم الثقة مع المدافعين عن الديمقراطية في العراق، فهذه ليست نزعة مثقفين وبالتالي جاءت بشكل طبيعي.

فإدارة بوش قدمت من قبل دعما خاصا ومتعمدا للعراقيين الذين يعيشون في ظل الديمقراطيات الغربية ويتفهمونها تماما، والذين يستطيعون الدعوة للديمقراطية في وطنهم، وكما قيل لي فإن بوش تقبل مزاعم الملك الاردني والرئيس المصري والسي آي آيه وآخرين، عن ان العراقيين الذين عاشوا خارج الحدود خلال حكم البعثيين للعراق بعيدون عن الاحداث ولا يجب اعطاؤهم أية مزايا تفضيلية عند تشكيل مستقبل العراق السياسي، وقد أدى هذا الامر للقرار الامريكي المشؤوم بعدم تدريب عدد كبير، من عراقيي المنفى، والذين جاءوا مع الغزو الامريكي في مارس الماضي، للعمل كمترجمين ومرشدين وافراد في قوات الشرطة العسكرية. وهو ما كان سببا للفوضى التي تعانيها سياسة بوش في مرحلة ما بعد الحرب، ويوما بعد يوم يؤكد المتحدث باسم الرئيس الامريكي ان البيت الابيض اعلم «وقيل» بأن لا يثق في العراقيين الذين حارب من اجل تحريرهم، وبعض المسؤولين يرون ان الادارة الامريكية شكلت مجلس الحكم الانتقالي على هذا النحو لعدم رغبتها في منحه أي دور حقيقي في القريب العاجل.

وعلى لسان احد كبار المسؤولين الامريكيين الذي لم يذكر اسمه، نقل مندوب صحيفة النيويورك تايمز بوزارة الخارجية الامريكية اوائل الشهر الجاري قوله: ان العراقيين انفسهم لا يعتبرون مجلس الحكم الانتقالي شرعيا، وانهم غير مستعدين لنقل السلطة.

والادارة الامريكية تتحدث عن عدم الولاء الذي يتسرب من الطبقات العليا من العراقيين، لكن تطلب من العراقيين ذلك، وهم يحاولون تفادي القنابل الامريكية فوق بغداد ويتفاوضون لصياغة دستور مع رجال كولن باول الذين يحاولون التقليل منهم وتجاهلهم تماما.

واسباب عدم الثقة متعددة، لكن اغلبها يعود الى الدور البارز الذي يلعبه بعض عراقيي المنفي في مجلس الحكم الانتقالي مثل اياد علاوي واحمد الجلبي وعدنان الباجة جي وعبد العزيز الحكيم والذين قاتلوا بضراوة من اجل الحصول على الدعم الخارجي لقضيتهم عندما كانوا في المنفى، والذين نجحوا في تكوين علاقة عمل جيدة نسبيا منذ عودتهم للوطن، لكن تحامل الشعب العراقي على عراقيي المنفى يعوق من دون حدوث أي تطور ايجابي.

والروائي الروسي فلاديمير نابكوف كان قد لفت الانتباه لعدم ثقة الغرب في المهاجرين في خطابه الذي ارسله الى الكاتب أدموند ويلسون، الذي دأب على امتداح نظام لينين في مقالاته رغم ان لينين ربما كان مسؤولا عن اغتيال والد نابكوف في برلين عام 1922، فقد كتب الرجل في خطابه ان المراقبين الامريكيين لا يرون فينا الا اشرارا واباطرة فقط ونساء نحيفات بنظارات مكبرة انيقة، ولا يدفعهم لمعارضة لينين سوى مصالحهم الشخصية، وبالتالي جعلت هذه الصورة المنطبعة عنا شهادات المراقبين الامريكين عديمة القيمة وغير مقبولة.

وقد اقتبس الكاتب مارتن آميس خطاب نابكوف في كتابه «كوبا المفزغة» وأكد في كتابة ان المهجرين كانوا غالبا من طبقة المثقفين والانتلجنسيا ويمثلون المجتمع المدني الذي اجبرته الثورة البلشفية على العيش في المنفى، والذين احتفت بهم الطبقات المختلفة في الغرب، وبالتأكيد فلو رأى ريموند آرون أبرز المثقفين الفرنسيين في القرن العشرين هذا المناخ الغريب لما بعد الحرب لكان له رأي مختلف، فالكتاب الغربيون ورجال واشنطن وكبار الكتاب العرب لم يكلفوا انفسهم عناء الكتابة وانتقاد صدام حسين عندما قتل وعذب ملايين العرب والايرانيين، في حين انهم يتغنون بعدم شرعية مجلس الحكم الانتقالي والبعض منهم يروجون لبعض التجاوزات الاخلاقية الملفقة.

وفي الخمسينات رفض آرون القسوة التي يتعامل بها المثقفون مع الديمقراطيات الفاشلة في حين انهم يتسامحون مع ابشع الجرائم طالما ارتكبت باسم الديكتاتوريات، وظلت هذه الازمة موجودة حتى خلال الحرب الباردة وقد يتحول الامر الى كارثة اذا قرر بوش ورجاله اراحة المثقفين ومشاركتهم في كراهية اشخاص تركوا اوطانهم طويلا لنيل الحرية.

* خدمة واشنطن بوست ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»