أمر له ما بعده

TT

كتبت المقال الخاص بمؤتمر الرواية العربية قبل يوم من نهاية المؤتمر وتم نشره السبت الماضي بعد يومين من اعلان صنع الله ابراهيم رفضه العلني لجائزة تمنحها الحكومة، لذا وصلتني عشرات التساؤلات عن عدم اشارتي الى ذلك الحدث الجلل ـ كما قالوا ـ وأغلب المتسائلين يريدون الموقف لا الرأي ومعظمهم من غزية يرون الدنيا بالابيض والاسود ولا مجال للعب بالالوان معهم مع ان ذلك الموقف يغري بالتلوين بالمائي والزيتي والفحم والطباشير. والحقيقة ان موقفي لم يكن سريا فقد قلته على باب القاعة التي شهدت الحدث، لكن معظم وسائل الاعلام العربية لا تنشر وتذيع إلا ما يعجبها ويتفق مع خطها وهذا جزء أساسي من ديمقراطية «انت حر الى ان تختلف معي بالرأي عندها ثكلتك أمك وأمها أنت والديمقراطية». وعلى العموم فان ما حصل ـ حسب تقديري ـ في صالح الثقافة العربية والحكومة المصرية معا فمن الجميل ان يظهر في اوساط المبدعين العرب من يرفض مائة ألف جنيه لخلافات سياسية مع المانحين، ومن المفيد للحكومة المصرية ان يحصل ما حصل أمام الميكروفونات ويخرج الرافض للجائزة والمختلف مع الحكومة من قاعة الاوبرا الى بيته من دون ان يعترضه أو يعتقله أحد فما حدث مع صنع الله ابراهيم دعاية للديمقراطية المصرية لا تحصل عليها الحكومة بالملايين، ومع ذلك جاءتها مجانا ومعها الشيك الذي لم يتسلمه الفائز.

لو حدث هذا في دولة عربية اخرى وانتقد أي أديب السياسات القطرية والقومية على رؤوس الاشهاد لاعتقلوا الفائز ولجنة التحكيم والجمهور وربما اعترضوا على سبيل الاحتياط المارة من قرب ذلك المكان ليفتشوا آذانهم وجيوبهم ليتأكدوا ان كلمة مارقة مما قاله الاديب الغاضب لم تفلت في الفضاء لتعكر صفو الامن القومي.

أما لماذا قبل صنع الله ابراهيم جائزة العويس ورفض جائزة المجلس الاعلى للثقافة؟ فهذا سؤال لا يجيب عنه غير صاحب العلاقة، فمن الظلم له وللجنيه المصري ان تقول ان مائة ألف دولار اكثر من نصف مليون جنيه، فالمسألة كما فهمتها من خطبة الفائز الرافض لا تتعلق بفرق العملة بمقدار ما تتعلق بفرق الفهم، فقد يكون صنع الله ابراهيم من اول المستجيبين لدعوة الدكتور جابر عصفور لإحياء صرخة غسان كنفاني الداعية الى دق جدران الخزان قبل ان نموت اختناقا من التراجعات والاحباط والاستسلام للإملاءات المحلية والخارجية.

لقد استفاد صنع الله ابراهيم أضعاف ما كان يمكن ان يستفيده لو وضع الشيك في حسابه ونام على ثروة مؤقتة بالمقاييس المصرية. واستفاد المجلس الاعلى ووزير الثقافة والحكومة المصرية سمعة ديمقراطية لا تقدر بثمن وكان من الممكن ان نناقش الموضوع بصورة ايجابية بدلا من هذه التشنجات، لكننا قوم غير معتادين على الاختلاف وخصوصا مع الحكومة، لذا تحولت قصة عادية حصلت كثيرا في تاريخ الجوائز الى مناحة عند قوم والى عرس عند آخرين، وما هي هذه ولا تلك، بل حجر في مياه راكدة نأمل ان تتحرك الدوائر التي احدثها الحجر باتجاه حوارات غنية تمس روح العمل الثقافي والمواقف الحيوية للمثقفين لا حصرهم بين جداري «مع أو ضد»، فهذا الحصر يعيدنا الى موقف الحكومات التي إما ان تكون معها أو تلغيك نهائيا مع ان الوطن يتسع لكل المختلفين بدون تخوين هذا وتجريم ذاك ووضع أكاليل الغار على رؤس من لا يستحقون غير نطح الابقار.

ويبقى من هذه القصة السيناريو الشخصي الذي دار في رأس الفائز منذ ان ابلغ بالفوز سرا الى ان اذاع الرفض علنا، وليس من المكالمة الاولى وهذه مسائل لا يعرفها غير صاحبها وعلام الغيوب، ومن الآن والى ان يكتب هذا السيناريو على الورق بقلم بطل الفيلم لا نملك غير التخمين والتأكيد بأن وراء الأكمة ما وراءها، فالقصة لم تنته وما زلنا في البداية، فهذا كما تقول الامثال العربية أمر له ما بعده، واللهم اجعل العواقب سليمة على الرافض والمرفوض.