واشنطن تعمل على تحويل المعتدلين العراقيين إلى الأغلبية..

TT

في ما يسمى تغييرا في السياسة قررت وزارة الخارجية الاميركية دعم فرض عقوبات اميركية اضافية على سوريا. ونقل مساعد وزير الخارجية الاميركي ويليام بيرنز هذا الموقف في شهادته يوم الخميس الماضي امام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس عندما قال: "اننا نواجه بعض المشاكل الحقيقية في التصرفات السورية التي لا يمكننا تجاهلها (...) اننا نتطلع الى تحقيق تغيير في التصرفات السورية وسنظل نعمل بقوة لتحقيق ذلك".

مقابل هذا التطور، يحاول بعض السوريين المقيمين في واشنطن، والذين على اتصال دائم بدمشق وبالمسؤولين في العاصمة الاميركية، العمل على عدم وصول قرار محاسبة سوريا الى دائرة التطبيق. ولأن في القرار بندا يدعو الى الانسحاب من لبنان، فقد ربط هؤلاء السوريون ـ كما اشار احدهم عندما تحدث في المؤتمر السابع والخمسين لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن قبل ايام ـ انهاء "الاحتلال السوري" للبنان بـ "انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية والسورية"، لكن واشنطن لا تحبذ ربط الاشياء ببعضها، لان ذلك يجعل الحلول مستحيلة، بحيث "نعلق الممكن حله بانتظار حل ما يصعب حله". وترد واشنطن بان الاسرائيليين انسحبوا من لبنان بالكامل "حسب وصف الامم المتحدة للانسحاب من لبنان"، وبالتالي، لن يكون من مصلحة احد اشعال العنف على الحدود اللبنانية ـ السورية، وتصر واشنطن على ضرورة ضبط النفس من قبل كافة الاطراف، اما القضية الفلسطينية، فانها قضية بحد ذاتها، وكما قال لي مصدر اميركي رفيع: "من حق المجموعة الدولية ان تسأل لماذا تبقى سوريا في لبنان، بعدما انسحبت اسرائيل من لبنان، وماذا عن اتفاق الطائف؟". ويستغرب المصدر كيف ان دمشق شدت انتباه واشنطن في هذه المرحلة، بطرق مفاجئة "ما كان يجب ان تقدم عليها، إذ مع الاستعداد للحرب، قررت دمشق الوقوف الى جانب صدام حسين، وهذا ما فاجأنا، وحتى الآن لم نصل الى اتفاق مع سوريا بسبب الاموال العراقية التي ترفض دمشق التخلي عنها، وهذا خرق كامل لقرارات مجلس الامن، كما انه مخالف للمصالح الاميركية"!. ويستغرب المصدر استمرار دمشق في تعكير علاقاتها بواشنطن، ويرى ان هناك قائمة من المشاكل الاميركية مع سوريا، وهي تستمر في إغضاب الحكومة الاميركية وان المسائل المتعلقة بالعراق هي آخر هذه المشاكل."هذا مفاجئ، لقد كنا نعتقد ان بشار (الرئيس السوري بشار الاسد) معتدل وانه يريد اجراء اصلاحات، وحتى الآن لم نلمس الكثير من الاصلاحات وما تزال سوريا في لبنان حتى بعد انسحاب الاسرائيليين، وما تزال سوريا تعتقد ان حزب الله سلاح..".

وقد يكون اكثر ما يثير واشنطن السياسة السورية تجاه العراق، لانه كان في استطاعتها مساعدة واشنطن في العراق، كما فعلت في حرب الخليج الاولى، لكنها اعتمدت قرارا عكسيا هذه المرة، "وهذا كان مفاجئا، لأنها لن تكسب كثيرا. ربما هي في حاجة ماسة الى الاموال، لكنها تدفع ثمنا غاليا لاسباب لا تفهمها واشنطن كثيرا".

ولا تكف الدوائر المعنية في واشنطن عن تقليب ما يجري في العراق، وقد احتلت القضية العراقية فعليا المركز الاول في الاهتمامات الاميركية وتراجع نسبيا الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وقد يكون مرد ذلك ان هناك عدم ارتياح شامل لسياسة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون والسياسة التي يعتمدها، ان كان في بناء السور او ردود الفعل العسكرية والتدميرية.

ويلفت المسؤولون الاميركيون الى التطور السياسي القائم في العراق ويعتبرون ان تشكيل مجلس الحكم العراقي بحد ذاته انجاز كبير، اذ كان هناك دائما مجموعات مختلفة، وكان هناك خوف من حرب شيعية ـ شيعية، او شيعية ـ سنية، "وبدلا من كل هذا، انشأنا في منتصف تموز (يوليو) هذا المجلس الذي يوحد كل المجموعات العراقية.. وهو جسم يضم كل الاطراف من كل المناطق، ثم انه ما زال قائما وشكل حكومة بدأت تتحمل المسؤوليات تدريجيا (...). ان وحدة مجلس الحكم العراقي مهمة، والهجوم على مسجد الامام علي في النجف، كان هجوما على المجلس ومحاولة لتأليب الشيعة ضد الشيعة او السنة ضد الشيعة، وان اغتيال السيد محمد باقر الحكيم كان القصد منه اشعال حرب دينية، وكذلك جاء اغتيال عقيلة الهاشمي عضو المجلس كمحاولة لنسف مصداقية المجلس، لكن، على العكس، فقد بدأ مجلس الحكم العراقي يحقق اعترافا دوليا، بدءا من الجامعة العربية حتى المؤتمر الاسلامي ومرورا بالامم المتحدة".

ويصر المسؤولون في واشنطن على ان هذا جسم لمستقبل العراق، وان النقاشات الدائرة تقنية وهي حول دستور العراق وموعد اجراء الانتخابات واستعادة السيادة، ويلفتون الى المجالس المحلية التي تنتشر بنجاح في العراق. ان ما يقلق واشنطن هو المشاكل والهجمات التي تقع في خمسة بالمائة من مساحة العراق، وهي في حاجة الى السنة وتريد ان تطمئنهم بأن حقوقهم ستبقى محترمة ومحافظا عليها. اما عن السيطرة الشيعية، فيرى المسؤولون في واشنطن انها تعتمد على الدستور.

قبل الحرب، اجرى عدد من العراقيين المقيمين في الولايات المتحدة نقاشات حول الدستور وما زالت بعض هذه النقاشات تدور حول النظام الفيدرالي، ولايجاد توازن في المجتمع العراقي بحيث لا تسيطر فئة على اخرى، ويرى المسؤولون في واشنطن انه "يجب ان تكون للاغلبية حقوق الاغلبية، مع احترام حقوق الاقليات، فهذا عماد النظام الدستوري، ان كان من ناحية الدين او الجغرافيا"، فهناك عدة طرق لوضع هيكلية سياسية تمنح الناس حكما ذاتيا وفي الوقت نفسه تمنح الاغلبية حقوقها، بحيث تكون حماية الجميع متوفرة. وتتوقع واشنطن ان يعكس الدستور هذا الوضع، اي امكانية التعايش بين الجميع.

وترفض واشنطن ما يطرحه البعض من ان حكم السنة انتهى في العالم العربي وانه حان الوقت لاعطاء الشيعة هذه الفرصة، وكما قال لي احد المصادر: "هل يرددون هذا في العالم العربي لاننا نرتبط بعلاقات جيدة مع ايران، ولهذا نريد المزيد من الجمهوريات الاسلامية؟". ويوضح، ان واشنطن تريد العراق متماسكا، وهذا يتم باقامة توازن مستقر وموحد، وقد يكون منح الحكم الذاتي احدى الوسائل المطروحة وليس الحل النهائي.. "لقد اكتشفنا ان الاغلبية في العراق شيعية، ونريدهم ان يتمتعوا بحقوقهم بعدما عانوا لفترة طويلة، لكن مستقبل العراق يجب ان يشمل الجميع ويحمي حقوق الاغلبية والاقليات، ولا نريد جمهورية اسلامية".

وتشدد واشنطن على الخطوط الحمر التي وضعها بول بريمر، الحاكم الاميركي للعراق، وهي لن تسمح باقامة جمهورية اسلامية، ثم ان المسؤولين الاميركيين الذين زاروا العراق وتجولوا في مناطقه عادوا، حسب ما يقولون، بانطباع ان العراقيين لا يريدون ما يدمر مستقبلهم، وان مهمة واشنطن هنا هي في جعل المعتدلين هم الذين يتخذون القرار النهائي، "فالمعتدلون في العراق هم الاغلبية"، وتستبعد واشنطن ضمن هذه المعادلة، ان تدعم الاغلبية اقامة جمهورية اسلامية، وقد يحاول المتطرفون فرض هذا "مثل مقتدى الصدر، لكنه يمثل شريحة واحدة من الشيعة"، ولهذا ترغب واشنطن في توفير الفرصة للمعتدلين ليقرروا مستقبل العراق. ويسود شعور في واشنطن بأن العراقيين لا يرغبون في ان تغادر الولايات المتحدة بلادهم، "لا يريدون لنا المغادرة، فنحن الحَكَم، ومن السهل توجيه تهديدات الى الحَكَم في بعض الاحيان، لكن الفرق تحتاج دائما الى وجود الحَكَم، للتأكد من عدالة العملية.. لسنا في العراق كغزاة او منتصرين، نحن هناك كحَكَم ولمساعدة العراقيين على تنظيم شيء ما بطريقة عادلة كي يستمر، وبنظرنا، من اجل ان يستمر اي شيء فيجب ان يكون عادلا، ونريد لأي عملية ان تستمر كي يتاح لنا الخروج.. هذه هي حساباتنا". العراق بلد معقد، هكذا اكتشف (!) الاميركيون، وهذه رؤيتهم عن الدول المجاورة له، وهذا ما نعالجه في المقال المقبل.