صدام حضاري على الرغم منا

TT

«الإسلام والغرب» موضوع معاد، كثر فيه الحديث منذ عقود طويلة، ونظم حوله الكثير من المؤتمرات والندوات الفكرية في السنتين الأخيرتين بعد زلزال 11 سبتمبر 2001، الذي أعاد الإشكالية للواجهة السياسية والإعلامية.

بيد أن الندوة المتميزة التي نظمها مركز الدراسات الأندلسية وحوار الحضارات (وهو هيئة مغربية ـ سعودية مشتركة، يرأسها وزير التعليم العالي السعودي خالد العنقري)، شكلت بالفعل إضافة نوعية لهذا الحوار المألوف، ليس باعتبار تشكيلة المشاركين فيها فحسب (وهم من رموز الفكر العربي والغربي البارعة)، بل كذلك من حيث الرؤية ومنهج العمل.

فلقد ركزت بحوث الندوة على صورة الإسلام في الوعي الغربي وصورة الغرب في الوعي الإسلامي، من خلال بحوث رصينة وجادة، أثبتت السمة المعقدة والمركبة للصورتين، على عكس ما تزخر به الأدبيات السيارة من تبسيط مخل للعلاقة بين الفضاءين، ومن ثم رسمت سبلا متعددة ومتنوعة لحوار ممكن ومطلوب بينهما.

ومن المفارقات الدالة أنه في الوقت الذي كان المؤتمرون يتلمسون هذه السبل في قاعة المحاضرات الفسيحة بمعهد العالم العربي، كانت تتعدد الإشارات وتتزايد على أن ما كنا ننفيه بإصرار واستحياء من صدام حاصل بين الحضارتين الإسلامية والغربية غدا مشهدا قائما لا تخطئه الأعين.

ولا بد من التوضيح هنا، أن ما نعنيه من صدام بين الحضارتين ليس التصور الرائج الذي بلوره هنتنغتون في مجال العلاقات الدولية وكرره آخرون في الاتجاه نفسه، وإنما نعني به الإقرار بحقيقة الصدمة العنيفة التي خلفتها الأحداث الأخيرة في مستوى نظرة الفكر الغربي للإسلام من حيث هو منظومة عقدية وقيمية.

وإذا تركنا جانبا كتابات استفزازية عدوانية انتشرت على نطاق واسع، مثل كتاب الصحفية الإيطالية أوريانا فالاشي «الغضب والكبرياء»، والرواية الأخيرة لميشال هودلبك، التي ذهب فيها إلى نعت الإسلام بأنه «أكثر الديانات حماقة»، وقد انضم إليهما مؤخرا، مدير أسبوعية «لبوان» كلود ابير، الذي لم يتردد في إعلان كرهه للإسلام ووصفه بأنه «يقود إلى التخلف العقلي»، أمكننا ضبط رهانات أربعة أساسية لهذا التصور لصدام حاد محتمل بين الإسلام والغرب:

الرهان الأول: يتعلق بالبعد الاستراتيجي، أي موقع الدائرة الإسلامية بمفهومها الأوسع المتمحور حول المثلث العربي ـ التركي ـ الآسيوي داخل النظام الدولي. فمن الواضح أن مراكز التمرد على الهيمنة الاميركية تكاد تنحصر في هذا المثلث المليء بالأزمات، الذي يشهد سباقا متزايدا للتسلح غير التقليدي، وقد خاضت فيه الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة حروبها الثلاث الأهم بعد الحرب العالمية الثانية.

ففضلا عن التحدي الذي يمثله الإرهاب والتطرف الأصولي على المصالح الغربية في المنطقة، فإن علاقات الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين مع البلدان الرئيسية في المجال الإسلامي، بما فيها الدول الأكثر اعتدالا (مثل المملكة العربية السعودية وباكستان وماليزيا) تتعرض في أيامنا لمصاعب حقيقية ليس هذا مجال بسط القول فيها. أما الرهان الثاني فيتعلق بمنزلة الدين ونمط حضوره وتوظيفه في الشأن المجتمعي والمدني. ففي الوقت الذي غدت المجتمعات الغربية معلمنة منذ ثلاثة قرون، ولم يعد الدين يؤدي فيها دورا مؤسسا للرباط الاجتماعي أو المشروعية السياسية (حتى ولو كان حاضرا بقوة في البنية الرمزية العميقة)، فإن الأمر مختلف بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، مما يجعل أي حوار بين الإسلام والغرب ملغوما منذ البداية: فهو حوار بين دين مكين ومتجذر وفضاء استراتيجي ـ ثقافي تضبطه مقولات ومعايير محايثة. أما الرهان الثالث: فيتصل بالجانب القيمي، أي التعارض بين منظومتين ثقافيتين ومعياريتين متمايزتين. ولعل الإشكال المستجد في هذا الرهان هو بروز انطباع متزايد لدى النخب الفكرية والسياسية الغربية بارتباط ظواهر التعصب والعنف في المجتمعات الإسلامية بجوهر القيم الدينية لهذه المجتمعات، مما يمنع أي إمكانية تواصل وحوار معها ضمن منظور احترام التنوع الثقافي وتأكيد حق الاختلاف القيمي والفكري. أما الرهان الرابع: وهو معطى جديد فيتعلق بموقع الجاليات المسلمة في الغرب التي أصبحت تشكل مكونا أساسيا من مكونات النسيج البشري والثقافي في أغلب البلدان الأوروبية وكذا في الولايات المتحدة. والسمة الغالبة على هذه الجاليات هي الحرص على التمسك بهويتها الدينية وقيمها السلوكية الخاصة في مجتمعات تتأسس على المركزية القومية.

إن هذه الرهانات الأربعة التي أشرنا إليها باقتضاب بدأت تتجسد في بوادر صدام حقيقي ليس بين كيانين حضاريين بالمعنى الدقيق للعبارة (فذلك تصور ساذج، لا طائل من ورائه كما بينا سابقا)، وإنما في شكل عوائق فعلية للتعايش والتفاهم بين فضاءين تجمعهما مصالح كثيفة مشتركة.

ومهما حاولت الجهات الرسمية في الجانبين حجب هذه الحقيقة المؤسفة، فإن الكثير من التصريحات وهفوات الكلام والسياسات المعلنة تؤكد بصفة متزايدة هذه الأزمة المتفاقمة في العلاقات الإسلامية ـ الغربية. فبعد تصريح رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني السنة الماضية حول تفوق المسيحية والغرب على الإسلام، وبعد هفوات الرئيس بوش وأركان إدارته المتكررة وصدور القوانين التمييزية ضد المسلمين في أميركا، تتعدد الإشارات إلى أن المسكوت عنه في الخطاب السياسي والإعلامي العربي حول الإسلام هو اعتقاد قيام حاجز ثقافي منيع يحول دون دمج هذا الدين ومعتنقيه في النظام الدولي القائم. وربما نشهد قريبا تلميحات أكثر وضوحا بهذا الاعتقاد، الذي بدأ يمرر عن طريق مطالب لطيفة من قبيل الإصلاح الديني والتربوي.

لقد كتب قبل أشهر هيربر فدرين وزير خارجية فرنسا السابق وهو من عقلاء القوم ومنصفيهم مقالة هامة في صحيفة لموند الفرنسية تساءل فيها كيف يمكن أن ننفــي صدام الإسلام والغرب الذي بدأ يتخذ ألف شكل ومنحى؟

وبعد أن عدد المسؤوليات المشتركة بين الطرفين، مركزا على الملفات السياسية والاستراتيجية الساخنة وفي مقدمتها الأزمتان الفلسطينية والعراقية وانحياز الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل ومشاكل الفقر والتخلف التي تفرخ التطرف والإرهاب، خلص إلى تقديم بعض الحلول العملية لهذه القطيعة من أهمها: إرساء حوار ديني وفكري ندي بين الجانبين، ومحاربة عقلية الكبرياء الزائف التي تفضي إلى إقصاء الآخر، ونبذ مقولة التفوق الحضاري، والسعي للحل العادل لمشكل الشعب الفلسطيني.

وقد اعتبر فدرين في خاتمة مقاله أن هدف بناء مجموعة دولية منسجمة ومتضامنة مرهون بالتغلب على هذا الصدام الإسلامي ـ الغربي.