مفارقة الانتحار

TT

ثمة مفارقة غريبة في ثقافة القتل بالانتحار، سواء قتل الآخرين او قتل النفس. وهي ان الذين يقتلون او يموتون هم دائماً الشبان، او الصغار. في حين تعجز امم الارض واموال العالم وكل الاقمار الصناعية عن العثور على الكبار في اي مكان.

لا بدَّ ان يكون هناك عامل او عنصر اساسي في المسألة. وانا طبعاً لا اعرفه ولا احب ان اعرفه ولا اريد التعرف عليه، فأنا ضد ثقافة الموت، وضد جريمة القتل، وضد حل كل قضايا العالم بمخترعات الفرد نوبل. انا مع الذين يحلون قضايا الانسان بالرقي والفكر والعمل والعلم والاجتهاد. وانا مع الذين يحلون قضايا الحياة بالحياة. وانا من الذين يعتبرون ان احد اهم احداث التاريخ، كان فصل رأسي التوأمين المصريين وانهاء عذابهما وعذاب اسرتهما وفتح آفاق الأمل امام الحالات المستحيلة. اما القتل في شوارع مكة فعمل هو الاسهل اطلاقاً. هكذا يفعل المجرمون في نيويورك. وهكذا يفعل تجار المخدرات في لوس انجليس. الجريمة هي اسهل الاعمال، لأن الذي يرتكبها هو الوحش في الانسان، هو القاتل. اما الانسان في الانسان فعمله شاق وارادته عظيمة ورؤيته جميلة ومشاعره نبيلة وقلبه على سواه.

الجريمة سهلة التنفيذ، والقتل مدرسة سهلة، وليس على القاتل سوى ان يطلق الرصاص. وهو يتعلم بأنه عندما لا يجد من يطلقه عليه، يجب ان يطلقه على نفسه، ولكن في سبيل مَن؟ في سبيل اولئك الذين لا يقتلون ولا يطالون ولا يصل اليهم احد. في سبيل اولئك الذين يقوم على حراستهم الشخصية مئات الرجال والخبراء. انهم يعلمون سواهم ان يقتل وان ينتحر، ويفتشون عن هؤلاء دائماً بين اليافعين الذين يمكن ان يتقبلوا اي مهماز، والذين يمكن تخديرهم بمصل الموت بحجة السعي الى الحياة

ودائماً دائماً لا يصاب المعلمون بأذى. دائماً يتعلمون الحرص على حياتهم من النمل. ودائماً يقاتلون من بعيد بمكبرات الصوت. ودائماً لا ينتعشون الا في القتل والخراب والدمار والموت. انها بطولة لا تقوم الا على شيء واحد، هو الموت للآخرين، جميع الآخرين، وليس لديها ما تعد به سوى الظلام والعدم، ولا يمكنها ان تطرح مشروعاً حياتياً او مستقبلياً واحداً، لأن اي كلام عن الحياة او عن المستقبل هو هزيمة لها. لذلك ارسلتهم يقتلون ويفجرون ويتفجرون، ونشرتهم يصرخون ويزعقون ولا يقولون كلمة واحدة في صوت هادئ، لأنه ليست لديهم كلمة مقنعة واحدة يقولونها. ولهم مهمة واحدة في الحياة ورسالة واحدة: ان يقيموا المعسكرات بدل المدارس والمقابر الجماعية بدل المستشفيات ومصانع الذخيرة بدل المختبرات. انها ثقافة لم تخلف وراءها سوى الموت والقتل. ثقافة تخشى الحوار والنقاش والفكر والانفتاح لأنها لا تستطيع ان تعيش فيها. الحل اما في الموت او في القتل، وفي ذر اليتامى ونشر الارامل وبث الذعر وتعميم الخراب.

اريد ان اكرر هنا حكاية الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي كان يأخذ تلامذته الى البرية لكي يعلمهم «على الطبيعة». وذات مرة وقف معهم امام مصيدة للعصافير، وسألهم ماذا يلاحظون ولما لم يعرفوا، لفت انظارهم الى ان العصافير الصغيرة وحدها تقع في المصيدة. العصافير الكبيرة ما ان تلمحها من بعيد حتى تغير طريقها. مساكين اولئك الشبان الذين يموتون او يقتلون في سبيل الذين لا تطالهم الامم ولا الاقمار ولا كل جوائز المال.