.. ما الذي حصل!!

TT

هناك حلقة مفقودة، فالمفترض ان لا يكون هناك سوء التفاهم الحالي بين سورية والولايات المتحدة، اذ ان المتتبع للعلاقة بين البلدين يجد ان «الحركة التصحيحية» التي جاءت بالرئيس الراحل حافظ الأسد الى الحكم في مثل هذه الايام من العالم 1970، اعتبرت انتصارا للاعتدال على النظام السابق، نظام نور الدين الأتاسي وصلاح جديد، المتهم بالتطرف والشيوعية، واعتبرت ايضا بمثابة فتح النوافذ والابواب نحو الغرب والولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة.

كانت المعلومات تقول، عشية «الحركة التصحيحية» وبعدها، ان اثنين من اعمدة النظام الجديد هما حكمت الشهابي وناجي جميل قاما بهندسة العلاقات السورية ـ الاميركية المستجدة. وكان الواضح ان الرئيس الراحل كان يتحلى بـ «براغماتية» عالية، وانه قام بذلك الانقلاب الابيض على رفاقه، الذين شاركهم الانقضاض على قيادة «البعث» القومية السابقة، التي كانت تعتبر يمينية ومحافظة، بعد ان ضاق ذرعا بهم وبـ «الاشتراكية العلمية» وبالانحياز الاعمى الى الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي، وبالعداء غير المبرر للدول العربية المعتدلة.

لم يتوان حافظ الأسد، بعد ان اقصى نظام رفاقه المتشددين، الذي كان نظاما مهترئا وآيلا للسقوط منذ عام 1968، اي قبل «الحركة التصحيحية» بنحو عامين، عن قيادة سوريا الى توجه جديد عنوانه الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة، وانهاء التوتر مع دول عربية شقيقة كان يصنفها نظام نور الدين الاتاسي ـ صلاح جديد على انها محافظة ورجعية ومتآمرة وعميلة للامبريالية العالمية!!

وبالطبع، فإن هذا التحول لم يرضِ القيادة السوفياتية الممثلة في الثلاثي المسيطر والمتحكم، بريجنيف ـ كوسيجن ـ بودغورني، ولكنها قبلت الامور على مضض، لأنها كانت تخشى ان تندفع سوريا بعيدا، وأن تدير ظهرها نهائيا لتحالفاتها السابقة مع الاتحاد السوفياتي ومع الكتلة الشيوعية الشرقية، وان تنتقل من قلعة للمعسكر الشرقي الى قلعة للمعسكر الغربي على غرار ما حدث مع دول كثيرة ومع مصر في فترة لاحقة.

والحقيقة ان حافظ الأسد، المعروف بدهائه السياسي ودقة حساباته، لم يفعل ما فعله السادات في وقت لاحق فبقي يمسك بالورقتين معا، الورقة الغربية والورقة الشرقية، وبقي يستخدمهما بمهارة فائقة ضد بعضهما بعضا، ولذلك فإنه ارسل قواته الى لبنان في عام 1976 بضوء اخضر من الولايات المتحدة، وبقبول بالامر الواقع من قبل الاتحاد السوفياتي، الذي كان رئيس وزرائه اليكسي غوسجين يومها في زيارة رسمية الى دمشق.

انحاز حافظ الأسد الى ايران في حرب الخليج الاولى، عسكريا وسياسيا واعلاميا وعلى كل المستويات، ولكنه لم يخسر علاقاته لا بالدول الخليجية، التي وقفت، على مدى سنوات هذه الحرب، الى جانب العراق وصدام حسين، كما انه بقي يحافظ على كل خيوطه مع الولايات المتحدة التي كانت تعتبر ان تلك الحرب حربها، والتي سخرت كل امكانياتها لالحاق هزيمة نكراء بنظام الثورة الايرانية، الذي كان ينظر الى ما وراء الحدود، والذي كان بعض رموزه يرفعون شعار: «الثورة الاسلامية الدائمة».

لقد انحازت سوريا الى التحالف الثلاثيني الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت، ولقد كرس الرئيس حافظ الأسد بلاده كرقم رئيسي في تحالف عربي جديد من خلال ما اتفق على تسميته «محور دمشق»، ولقد بقيت سوريا تسير في هذا الاتجاه، والمستغرب ان نشهد الآن كل هذا الاهتزاز في العلاقات السورية ـ الاميركية وهو اهتزاز بدأ عشية انهيار نظام صدام حسين الذي بقي السوريون يقاومونه «سراً وعلانية» على مدى اكثر من ثلاثين عاما.

لا بد ان هناك خللا ما قد حصل، ولا بد ان حلقة من الحلقات السورية الداخلية اما انها اخطأت الحسابات، واما ان لها حساباتها الخاصة حتى تتأثر علاقات سوريا بالولايات المتحدة على هذا النحو، وهي علاقات نسجها حافظ الأسد بالحنكة والحكمة وبالقراءة الصحيحة للمعادلات الدولية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بنحو عشرين عاما وأكثر.