خطاب انصراف هيكل.. تحليل مضمون

TT

في 30 سبتمبر (أيلول)، 1 أكتوبر (تشرين الأول)، وبمناسبة بلوغه الثمانين، كتب محمد حسنين هيكل خطابا في الأهرام على حلقتين سماه خطاب «انصراف»، بين، في نهايته، أن الانصراف لا يعني الاختفاء، أي أنه يعيد ترتيب أوراقه وأفكاره للظهور بشكل آخر، وربما كان هذا الخطاب جزءاً من أدوات التشويق لما سوف يقدمه في هذه السن.

أنا من تيار وجيل لا ينتمي إلى المعارك الأيديولوجية التي كان يجيدها هيكل وخصومه، فهو يكبرني بأكثر من أربعين عاما، ومن ثم على المستوى الشخصي لا أحمل له إلا الدعاء بالصحة والسعادة وطول العمر، ومن ناحية أخرى أنا أكتب وأعيش في الخارج، ومن ثم فقد تجاوزت، ومنذ فترة، الكليشيهات التي يرهب الأيديولوجيون بها الباحث المحايد. في كل كتاباتي وتحليلاتي، أنطلق في تقييم الأشخاص والأحداث من فكرتي «التقدم»، و«التخلف»، و«المواطن» قبل «الوطن». فالتقدم هو الذي يعنيني، وإنسانية وسيادة ورفاهية المواطن هي التي تشغلني بعيدا عن الشعارات. وبناء على هذه المعايير نحاول تحليل مضمون خطاب هيكل الأخير، والذي يعكس صورة مصغرة لحياته.

بداية، وقبل عرض الأبعاد الرئيسية لخطابه وحياته، في تقييمي الشخصي أن هيكل هو أبرع وأشهر صحفي عربي في القرن العشرين، والبراعة هنا تعني توظيفا للكفاءة وفقا لأجندة صاحبها. أما الكفاءة الخالصة في مجال الإعلام، فتعني الارتقاء بمهنية وأخلاقيات العمل الصحافي.

البعد الأول: قدم هيكل في خطاب انصرافه السياسي على الصحافي، فهيكل السياسي هو ما يعنيه، وقد قام بتوظيف الصحافي لصالح السياسي. في تقديمه لهيكل السياسي، أوضح لنا بجلاء أنه صانع أمجاد مصر منذ اقترابه من عبد الناصر وحتى اختلافه مع السادات. فهو الذي دعم شرعية السادات، وهو الذي كتب التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر، وهو الذي خطط حتى تكاد تتصور أنه هو صانع السادات ونصر أكتوبر. أما أخطاء السادات من التهور والتفريط في أوراقه وحتى الثغرة، فهي من صنع السادات وأصدقائه من الرجعيين، كما كانوا يطلقون عليهم في ادبياتهم. وحتى أخطاء عبد الناصر الأمنية فهو غير مسؤول عنها، فهو كصحافي يملك حساسية شديدة لكلمة أمن.

البعد الثاني: يوظف هيكل في كل تاريخه كتاباته لصالح الرؤية السياسية التي يريد أن يقدمها للقارئ. فهو لم يملك الحياد المهني يوما ما، وإنما يمسك بيد القارئ ويوصله إلى حيث يريد. هيكل يبدأ بتحديد الهدف السياسي قبل الكتابة، ويوظف عددا من الوقائع الحقيقية واخرى مختلقة، ومجموعة من العبارات الخطيرة المنسوبة إلى شخصيات مهمة ولا يمكن التأكد من صحتها. وفي النهاية يحلل كل هذه الخلطة للوصول إلى النتيجة السياسية التي يبغيها. وهذه الكتابات لا يمكن اعتبارها بحثا علميا ولا كتابات تاريخية، فالباحث المدقق يكتشف بسرعة الاختلاقات، والمؤرخ يكتشف فيها حجم التضليل والتوجيه.

البعد الثالث: أتصور أن هناك مدرستين سيطرتا على العقل المصري والصحافة المصرية طوال نصف القرن الأخير وحتى الآن ـ بالطبع مع وجود استثناءات قليلة.

المدرسة الأولى: هي «مدرسة الإثارة والمبالغة»، ومؤسساها هما المرحومان مصطفى وعلي أمين. والذين عملوا مع الأخوين منذ البداية، كانوا يأخذون توجيهات بوضع الخبر في شكل مثير، حتى ولو كان هناك قدر كبير من المبالغة فيه. ومع التدهور في المهنة والأخلاقيات، تحولت المبالغات إلى أكاذيب، والإثارة إلى صحافة صفراء.

المدرسة الثانية: هي مدرسة «التضليل السياسي» ومؤسسها هو الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، ولأن تلاميذ هيكل لا يملكون حرفيته ومهنيته الرفيعة في التحليل ولوي الحقائق، فإن هذه المدرسة تحولت بمرور الوقت إلى التشنج والغوغائية والتضليل الفج.

إذا جمعت أسوأ ما في المدرستين من إثارة ومبالغة وأكاذيب وتضليل سياسي وغوغائية، تكون المحصلة مدرسة أخرى هي مدرسة «الإسلام السياسي الإعلامية».

البعد الرابع: تعكس خصومات هيكل طموحاته الشخصية وليس المبادئ. فعندما فشل في احتواء السادات انهال عليه طعنا، وعندما أراد إخلاء الساحة من منافسيه، ساهم بالزج بمصطفى أمين في السجن، بدليل انه يقول بنفسه أنه سحب مقالاته من أكثر من جريدة مصرية حتى لا يسبب إحراجا لنظام مبارك. فلماذا هذا التغيير؟ وما هو دور المثقف إذن؟ انه كما يقول إدوارد سعيد «موقف نبيل وشريف يشيع الحرج والاعتراض، بل حتى الامتعاض، حتى يحدث التغيير المنشود».

البعد الخامس: ساهم هيكل بشكل كبير، في خلق جيل أو أكثر من الصحافيين الحالمين بزعامات سياسية، وآخرين يحلمون بعلاقة خاصة مع السلطة، كما كان وضع هيكل. وما الخصومة الحالية بين اثنين من رؤساء تحرير الصحف المصرية، إلا منافسة على من يكون فيهم الأقرب للرئيس، وكل منهم يزايد على الآخر حتى تحولت الصحف القومية إلى منشورات حكومية منفرة.

البعد السادس: باعتبار هيكل أحد الشركاء الأساسيين والمنظرين لفكر يوليو، فهو يطالبنا في خطابه أن نقيم ظاهرة يوليو بمعايير زمانها. ووفقا لهذه المعايير، يراها «ظاهرة عظيمة في قرن عظيم». وهذا في رأيي خطأ في التقييم، فالتقييم يكون بمعيار النتائج مصريا وعربيا، وهي كارثية بالفعل. ويكفي نظرة على مصر قبل وبعد يوليو، لنرى التحولات العميقة من الليبرالية إلى الاستبداد، ومن الاقتصاد الحر إلى الفساد المصاحب للفكر والاقتصاد الشمولي، ومن القيم الأخلاقية المصرية إلى الانحطاط الأخلاقي الحالي، ومن الانفتاح والتعاون إلى العدائية والصدام مع الآخر المتقدم. أما عربيا، فيكفينا نظرة على توابع يوليو من الأنظمة الثورية في غير بلد عربي، لنتبين أي نكبة حملتها «يوليو» للمنطقة. هذا هو التقييم الحقيقي للثورات، لا بمعايير الماضي أو الحاضر، وإنما بالنتائج الحقيقية التي أدت إليها والتغييرات التي صاحبتها.

البعد السابع: ليس الاعتراض فقط على المصطلحات التي نحتها هيكل ـ مثل النكسة، والتنحي، والانصراف، ولكن الخطورة الحقيقية في المفاهيم التي صاغها هو ورفاقه، وهي كثيرة ولا يتسع المقال لسردها، ولكن نلتقط من خطاب انصرافه مفهومين: الأول مفهوم الشرعية. وهو يحدثنا عن مفهوم مختلف عما نعرفه في العلوم السياسية. فيحدثنا عن شرعية يوليو، وشرعية أكتوبر. فكل من ينجح في انقلاب يتخذه أساسا لشرعية لا يجرؤ أحد على نقدها والخروج عليها. وكل من ينتصر في معركة، سواء انتصارا حقيقيا أو وهميا يعتبر ذلك شرعية للنظام. أما اختيارات الشعوب فلم تدخل فى تحليل الأستاذ. الحقيقة أن هذه شرعية كل من يستطيع السيطرة على الحكم.

المفهوم الآخر الذي دشنه هيكل في خطاب انصرافه، فهو مصطلح الخيانة. وهو يتنازل ويعتبر أخطاء السادات «لا تلحق به مظنة الخيانة». فهو الذي يحدد الأخطاء وما إذا كانت خيانة أم لا. احتكار هيكل ومدرسته لتعريف الوطني والخائن مهد لمدرسة أخرى احتكرت تعريف المؤمن والكافر. وهكذا تم تشويه وتدمير المصطلحات، وكان من نتيجته ما آلت إليه مجتمعاتنا حاليا.

في الختام أعتقد أن تجربة هيكل، في مجملها، تجربة سلبية وضارة للسياسة والصحافة معا، ولا تصب فى اتجاه التقدم، وهو شريك في المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع السياسية والصحافية في مصر والعالم العربي.

[email protected]