الرأي العام الأوروبي في سياقه الديمقراطي والأخلاقي

TT

التمدن والتحضر ليسا (قوة تكنولوجية) فائقة أو ضاربة، فهذا نمط من القوة امتلكته من قبل قوى طاغية باطشة، واستعملته في الشر وقهر الإنسان وظلمه وفي التخريب والتدمير: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد».. ولم يُتهم هتلر ـ قط ـ بأنه كان مجرداً من القوة التكنولوجية، بل امتلك منها ما مكنه من شن حرب أو مباشرة أسباب حرب عالمية ماحقة.. ومع ذلك لم يوصف هتلر بأنه «متمدن متحضر» ـ بالمفهوم الإنساني والأخلاقي للتعبير.

تأسيساً على هذا: يتعين التدقيق في مقياس التمدن والتحضر والتقدم تدقيقاً ينتهي بإدخال المعنى التالي في صميمه: معنى: الاعتبار بحقائق التاريخ، والاستفادة العقلانية من المضامين الزاكية والنافعة للعلوم النفسية والاجتماعية والأخلاقية والجغرافيا البشرية.. فهذه الحقائق والمضامين تتفق موضوعياً على أن القوة الهائلة والسطوة الجبارة لن تجعلا الإنسان (محبوباً) ولن تجعلا الدولة (جميلة الوجه).. ذلك أن للحب والجمال ـ في المجال السياسي ايضاً ـ «مقوماتهما ومقتضياتهما»، وهي مقومات ومقتضيات يتقدمها ـ بإطلاق ـ«الفعل الحسن».. و«السلوك العادل».

هذا مدخل فكري لمناقشة ظاهرة اجتماعية ونفسية وسياسية ـ كبيرة وجديدة ـ في أوروبا: ظاهرة أن الرأي العام الأوروبي: جزم بان إسرائيل هي الدولة رقم 1 في هذا العالم التي تهدد السلام الدولي أو العالمي.

ومبتدأ المناقشة: أن موقف الشعوب الأوروبية هذا: مرتبط بـ«الفعل والسلوك»: الإسرائيلي ولا ينبعث من تعصب عنصري، ولا من «العداوة الآيديولوجية»، كما تدعي الحركة الصهيونية.

* الفعل الصهيوني المستفز للأوروبيين

* أجرت المفوضية الأوروبية استطلاعاً أو استفتاء (رسمياً) للرأي العام الأوروبي: حول الحروب، ومهددات السلام العالمي والأمن الدولي، وهو استفتاء ينبغي التحديق ـ بعلم ووعي وجد ـ في حجمه ومصدره، ونتيجته، ودلالاته، وأثره، فحجم المشاركين في الاستطلاع بلغ 7515 وهي عينة مشبعة ومعتبرة بمقياس منهج البحث العلمي.. ومصدره جهة رسمية ممثلة للاتحاد الأوروبي وهي المفوضية الأوروبية..ونتيجته هي: أن 59 في المائة ممن اخذ رأيهم قالوا: ان إسرائيل هي أول وأخطر بلد يهدد السلام العالمي.. أما دلالة الاستطلاع فتتمثل في أن الأوروبيين أدركوا بوعيهم وحريتهم واستقلال تفكيرهم: أن إسرائيل هي الخطر الأول على السلام العالمي.. وتتمة الدلالة: أن الأوروبيين أثبتوا أنهم «متحررون» من الضغوط السياسية والإعلامية التي تتوخى ـ ابداً ـ توظيف كل موقف واتجاه لصالح الأجندة الصهيونية.. ومن المتوقع: أن يكون لذلك كله آثار سياسية: كثيرة وعميقة، من أعجلها ـ سلباً ـ: تلكؤ المفوضية الأوروبية في إعلان نتائج الاستطلاع، واعتذار رئاسة الاتحاد الأوروبي عما جرى، ولهذه المواقف نفسها: آثار مستقبلة على الانتخابات مثلاً.

لماذا وقف الرأي العام الأوروبي هذا الموقف؟

لا نستبعد أن يجيب كذاب صهيوني على هذا السؤال بان الإسلام هو المتسبب في ذلك، كما لا نستبعد أن يجيب خائن عربي بأن «الوهابية» هي التي تسللت إلى أدمغة الأوروبيين وهم يدلون بآرائهم في الاستطلاع!!

بيد أن الأمر أوضح واكبر وأعمق من هذه الأكاذيب والخيانات.. فالرأي العام الأوروبي اتخذ هذا الموقف بـ«سبب الفعل الإسرائيلي أو الصهيوني» الظلوم والاستعلائي والاستفزازي..يضم إلى ذلك أسباب أخرى بطبيعة الحال.

ومن نماذج هذه الأسباب:

1 ـ أن الأوروبيين يشاهدون يومياً: صور المظالم التي تنزلها إسرائيل بالفلسطينيين وتقوض من خلالها حقوق الإنسان وقيم العدالة وقواعد القانون الدولي وأسس السلام العالمي.

2 ـ أن في إسرائيل نفسها من «يعارض» هذا الظلم، ويتمرد على زبانيته.. واقرب مثال على هذه المعارضة، وهذا التمرد: أن جنوداً وضباطاً إسرائيليين تظاهروا لأجل التضامن مع زميل لهم، رفض تأدية خدمة الاحتياط في الجيش الصهيوني عند حاجز «ريمونيم» العسكري.. وقال الضابط الإسرائيلي «توم مهاغير»: «لقد رفضت تولي قيادة الحاجز القريب من مستوطنة «عوفر» لأن هذا الحاجز أقيم لممارسة الضغط على المدنيين الفلسطينيين، ولا قيمة أمنية له، لقد تلقينا أوامر بإجبار الفلسطينيين القادمين من ثلاث قرى مجاورة بالقيام بالتفاف كبير. ان هذا الحاجز يشكل عقوبة جماعية».. وقال النقيب احتياط «ديفيد زونشاين»: «ان الحواجز العسكرية لا تتطلبها ضرورات الأمن، بل تهدف فقط إلى تنغيص حياة الفلسطينيين».. وأصدر الائتلاف ضد جدار «الفصل العنصري» بيانا قال فيه: «باسم الأمن يقام أمام أعيننا جدار يتسبب في سجن مليوني إنسان في أحياء معزولة، جدار يفصل بين البشر ومصادر رزقهم، وبين شعبهم، ويهدف إلى تهجير صامت لمئات الألوف من الفلسطينيين».. ومن قبل امتنع عدد كبير من الطيارين الاسرائيليين عن قصف الأحياء المدنية في غزة بناء على أوامر تطلب منهم قصف كل شيء فلسطيني: متحرك أو ثابت.

إذا كان الضمير الإسرائيلي نفسه قد استفزه الظلم الصهيوني للفلسطينيين فتمرد: أليس من حق الأوروبيين ومن واجبهم: أن يرفعوا أصواتهم ـ وهم الأكثر تحرراً ـ بان إسرائيل هي الخطر الأول على السلام العالمي؟

3 ـ منذ أربعة أيام، أعلن جهاز المخابرات الهولندي: انه يزمع وضع تحركات منظمة الدفاع العسكري اليهودية تحت المراقبة وهي منظمة تأسست قبل أسابيع قليلة.. وسبب المراقبة كما قال المسؤولون الهولنديون هو: أن هذه المنظمة تقوم بأعمال إرهابية منها: استخدام أساليب عنيفة في توفير الحماية للشخصيات اليهودية أثناء تنقلاتها داخل البلاد.. ولوجود خطط لاستخدام العنف ضد من ترى المنظمة اليهودية أنهم ضد السامية.. ولأنها تقوم بتدريب شباب يهود على العنف، واستخدام السلاح، وقيادة المعارك، تفعل ذلك عبر دورات التدريب التي تعقدها المنظمة.. وكان القرار الرسمي بالمراقبة نتيجة لمعلومات حكومية أو رسمية موثقة وبحكم ضغط قوي مارسته منظمات السلام الهولندية.

4 ـ يشعر الأوروبيون بان التدخل الصهيوني في شؤونهم وحياتهم قد تجاوز كل حد، فهناك مؤرخون أوروبيون اضطهدوا وشوهت صورهم لأنهم حاولوا أن يكونوا أحراراً في مناقشة وقائع الهلوكوست.. أكثر من هذا استطاعت الصهيونية بوسائلها السياسية المعروفة: أن ترغم الأوروبيين وتكرههم على أمرين: الأمر الأول: الامتناع عن البحث في مسألة الهلوكوست، والأمر الثاني: تدريس هذا الهلوكوست في المدارس الأوروبية.. حصل ذلك في مؤتمر أوروبي على مستوى عال منذ سنوات.

5 ـ أن الأوروبيين ينفرون نفوراً شديداً من الحرب ومن كل من يتسبب في تعطيل السلام وإجهاضه.. ومن حقهم أن يقفوا هذا الموقف، ففي قارتهم دارت اكبر حربين عالميتين في التاريخ البشري كله. ولقد احترق ملايين الأوروبيين في هاتين الحربين، واحترقت مدن وصناعات ودمر الاقتصاد.. وهم يدركون أن يد الصهيونية كانت من بين الأيدي التي أججت تلك الحروب.. من هنا اندفعت الشعوب الأوروبية ـ مثلاً ـ بكثافة غير مسبوقة وتظاهرت ضد الحرب على العراق. 68 في المائة من الاستطلاع الذي بين أيدينا قالوا: «ان هذه الحرب لم يكن لها ما يسوغها».. وفي هذا الموقف: لدى الأوروبيين من النضج ما يرسخ الاقتناع لديهم بأن إسرائيل لم تكن بعيدة عن هذه الحرب، ولا بريئة من التحريض عليها.

وتمام المقال:

1 ـ أن الهلع من نتائج الاستطلاع يدل على «نفاق عظيم» في المواقف من الديمقراطية والحرية والشفافية.. وليس أمام الهلوعين من الصهيونيين وأعوانهم والخائفين منهم إلا تعطيل الوسائل العلمية المدنية في استطلاع الرأي العام والتعرف على اتجاهاته. ب ـ وتعطيل هذه الوسائل يقتضي ـ قبلاًَ ـ تعطيل الديمقراطية والحريات العامة. ج ـ رسم استراتيجية طويلة بهدف تربية الناس على الخوف من الشفافية والكفر المبين بها. د ـ اتهام الرأي العام الأوروبي بالغوغائية والأمية: التعليمية والسياسية والحضارية. هـ ـ الاستجابة لنتائج الاستطلاع والاستفادة منها في تصحيح المسار، وترشيد الفعل والسلوك. وـ الإصرار على الفعل الرديء المستفز لكي يتكرر ما وقع لليهود في التاريخ: كراهية.. ثم وعي عام مناهض.. ثم صدام.. فهلاك.

2 ـ ان موقف الرأي العام الأوروبي ينبغي أن يربط بأسانيده السياسية والنفسية العميقة.. مثلاً: ان الأوروبيين في السنوات العشر الأخيرة شعروا بالتحرر من الضغط الأمريكي أو من الارتباط الميكانيكي بالسياسة الأمريكية، ابان الحرب الباردة.. ولقد كان سقوط الاتحاد السوفيتي بمثابة فرحة عظمى لأمريكا ولكنها فرحة لم تتم إذ اقترنت الفرحة بما يضادها وهو: العودة الأوروبية التلقائية إلى الوعي بالحرية والاستقلال والانعتاق من خوف مركب: الخوف من كابوس الاتحاد السوفيتي على مدى ما يقرب من نصف قرن، والخوف من الضغط الأمريكي في الفترة ذاتها، من الضغط الصهيوني المواكب.