سلام السودان ووحدته.. هذا أو الطوفان!

TT

أستهل مقالي بعبارة من سيدنا عيسى عليه السلام، لحديث عن سلام السودان، إذ قال لرجل أقام مع مرض لمدة 38 عاما كاملة وبعد أن شفاه، أي المسيح: «ها أنت قد برئت.. فلا تخطئ أيضا حتى لا يصيبك ما هو أشر».

ومن عجائب الصدف أن السودان ومنذ استقلاله عن بريطانيا عام 1956 لم يعرف السلام أو يعيشه الا لعشر سنوات بدأت مع اتفاق أديس أبابا في 3 مارس 1972 وانتهت بتفجير الحركة الشعبية لتحرير السودان لحرب جديدة في 16 مايو 1983، أي أن السودان قد ظل مع مرض الحرب الأهلية لـ37 عاما أقرب ما يكون الى ذلك الرجل الذي شفاه المسيح ولكنه حذره أن لا يخطئ ثانية.

المقولة والمقارنة طافتا بذهني وأنا أغادر فندق هيلتون متربول الذي التأمت فيه مساء السبت (أول من أمس) ندوة عالية وكثيفة الحضور على شرف وصول باقان أموم القيادي بالحركة الشعبية وأمين عام التجمع الوطني الديموقراطي وأحد المفاوضين الأساسيين عن الحركة الشعبية، والذي وقع عنها على الاتفاق الأخير بكينيا، الى لندن في جولة قال لي انها ستمتد الى واشنطن لتشمل لندن مرة ثانية.

الندوة تلك كانت هادئة طوال حديث باقان، ولكنها أصبحت عاصفة طوال مداخلات الحضور، ولا بأس من إيراد بعض عواصفها وأكبرها مداخلة لسياسي من الجنوب افتتح مداخلته بسؤال لباقان قال له فيه ان علي عثمان نائب البشير قد قام بجولة في أقاليم السودان لتدشين حملة سياسية للتمكين لوحدة السودان، فلماذا لم تبدأ الحركة الشعبية حملة مماثلة للإعداد لفصل شعب جنوب السودان عن الشمال؟

ذلك حق ذلك السياسي، ولكن باقان نفسه كان قد أشار في حديثه الى مرارات الماضي بين الشماليين والجنوبيين، ولمح الى أنه ومن غير العمل على تجاوزها، فإن السلام سيختنق، ويخنق معه كل الأحلام المعقودة على قيام سودان جديد على ركام هذه الحرب الأهلية الكريهة التي هي أطول حروب القارة السمراء.

القضية قائمة إذن حتى بعد التوقيع على اتفاق للسلام، وذلك لا يخص السودان وحده لحظات الحديث عن السلام، وللأسف فالنظر القاصر الذي صاحب التعاطي مع القضايا الشائكة والمعقدة لا يزال يتبختر في ثنايا التعاطي الحالي للقيادات السودانية مع السلام.

أقول بذلك لأني لم أسمع بعد لتفريق مشروع بين تحقيق السلام وصناعة السلام، فالأول يمكن أن ينجزه متفاوضون من غرف مغلقة، ويمكن أن تنفذه أو تسعى لتطبيق ما تم الاتفاق عليه آليات وأجهزة، ولكن الثاني، صناعة السلام، شأن لا بد أن يشترك فيه الجميع بما في ذلك أطراف تحقيق السلام.

وحين نقول بعبارة «الجميع» هذه نشحذ الانتباه الى طلب الانفصال «المسبق» الذي قال به ذلك السياسي مطالبا بحملة سياسية تهيئ له، والى الترميز لانفصال «مؤجل» يقوم على مستحقات التعاطي مع السلام بما تحمله تلك المستحقات من ما ورائيات ومرارات وأنماط ظلت تحكم نظر الشمالي للجنوبي والعكس.

تجاوز مثل تلك الحيثيات سيعوق معركة صناعة السلام إن لم يحاربها في صناديق الاقتراع يوم أن يأتي أجل الاستفتاء الذي ضمنته لجنوب السودان وثيقة ماشاكوس، فما العمل؟

ومرة ثانية، التعاطي مع تلك الحيثيات لا يمكن أن يتم بالصورة الراكنة للكليات وإنما بصورة أخرى تغوص في التفاصيل وتقيم الوزن كل الوزن لعمل بين الجماهير والمواطنين بممثلين ليسوا سياسيين بالضرورة، حتى لا تغرق الأهداف ومن بعدها النتائج في بحر التأويل الذي يصاحب دوما التعبئة السياسية ويصادرها ويقيدها على ناتج المصالح. وسيكون بالطبع من الأجدى للسياسيين أن يمولوا مثل تلك الأعمال التي يكون عليها التحرك نحو هدف واحد وهو زرع الثقة بين الجانبين لدى من فقدوها، وترسيخها لدى من يملكون منها قدرا، بحملات تستخدم ناشطين من الجانبين وتعتمد كل فن وطريق متاح للتمكين للهدف. وليت سياسيي السودان يعلمون أن قضايا التمايز العرقي والإثني والثقافي والديني لا تحل كما تحل قضايا ترميم الجدران والمنازل بالطلاء أو تسكين الجحور والشقوق بقليل من الرمل والاسمنت، إنها غير ذلك، لأنها ضاربة في عقل ووجدانهم الناس.

وليت سياسيي السودان يستذكرون ما قام به شارل ديجول مع المانيا، وذلك هو غرسه اليوم وقد جعل من الدولتين الأقرب مواقف بين سائر دول الاتحاد الأوروبي على أنقاض أحقاد وحروب دامية، ولم يفعل ديجول غير أن راهن على المستقبل واقترح زيارات للشباب من البلدين بتمويل من الدولتين في مشروع يستهدف غسل المرارات بالتعليم السياحي.

من غير معالجة في العمق للمرارات برؤى أكثر عمقا يصبح من الممكن جدا أن يقترب مشروع السلام السوداني من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. إنها معادلة هذا أو الطوفان.