العرب والمجتمع المدني العالمي

TT

اجتمع عشرات الآلاف من مناهضي العولمة في باريس الأسبوع المنصرم في إطار المنتدى الاجتماعي الأوروبي الذي يمثل أبرز منظمات المجتمع المدني الأوروبية المنخرطة في هذا التيار المتنامي، الذي انبثق قبل أربع سنوات خلال تظاهرات سياتل المحتجة على العولمة الرأسمالية المنفلتة من كل قيود. وقد رفع المتظاهرون المتحدرون من خلفيات فكرية وآيديولوجية وقومية متباينة، الشعار الذي غدا يميز هذا التيار وهو «أن عالما آخر ممكن». وأكدت التظاهرات الكبرى التي نظمها التيار الاجتماعي المناهض للعولمة في بورتو اليغرو وفلورنسا وأفيان وأخيرا في سان ديني بباريس أن هذه الديناميكية الجديدة ليست مجرد انتفاضة عفوية سطحية كما كان الانطباع الأول عنها، وإنما تعبر عن تحول نوعي في الساحة الفكرية والآيديولوجية الغربية، وتعكس اتجاهات جديدة في حقل وصيغ الممارسة السياسية بحجم التغير الهائل الذي أحدثته مقاييس العولمة في المجتمعات الصناعية الديمقراطية المتقدمة. ومع أن لهذه الديناميكية مفكريها البارزين من نوع عالم اللسانيات الأمريكي ناحوم تشومسكي، وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي رحل مؤخرا، والفيلسوف الإيطالي توني نغري، كما لها إصداراتها وإعلامها السيار، وتسندها العديد من التشكيلات السياسية مثل بعض الأحزاب اليسارية وحركات الدفاع عن البيئة، ولها ارتباطها الوثيق بحركات التحرر ومنظمات حقوق الإنسان في بلدان الجنوب، إلا أنه لا يمكن اعتبارها آيديولوجية جديدة أو تيارا فكريا منسجما، وإنما تمثل نوعا من النقابة العالمية (بالمفهوم الواسع للعبارة) تلائم من حيث الرؤية وأدوات العمل الموجة الراهنة. والواقع أن التيار الجديد لا يناهض العولمة إلا ظاهرا، وإنما يدعو على الأصح إلى عولمة بديلة من دينامية التوسع الرأسمالي المتوحش الذي لا يتحقق إلا على حساب الطبقات الاجتماعية الضعيفة والثقافات والقوميات الهشة والتوازنات البيئية. ومن المثير أن الحضور العربي في هذا المنتدى الرحب ضعيف لا يكاد يذكر، على الرغم من تبني التيار الاجتماعي المناهض للعولمة قضايا الأمة الرئيسة وعلى الأخص قضية الشعب الفلسطيني، وكان قد وقف بشدة ضد حرب العراق وعبأ الشارع الأوروبي ضدها. وفي ما وراء هذا الجانب السياسي الظرفي، فإن التواصل مع هذه الديناميكية المتنامية ضروري في اللحظة الراهنة لكسر الحصار الحاد المضروب على الدائرة العربية الإسلامية في الرهان الاستراتيجي الدولي بعد نهاية الحرب الباردة، وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 على الأخص. والمعروف أن هذه الدائرة تمكنت من افتكاك موقع رئيس في النظام الدولي المندثر من خلال حضورها الريادي في كتلة عدم الانحياز التي ضمنت لها إسماع صوتها عاليا في المنتدى العالمي مما نجم عنه دفع مسار التحرر العربي من الاستعمار وتحقيق التأييد الجارف لحقوق الشعب الفلسطيني. بيد أن تفكك حركة عدم الانحياز وانهيار المعادلة الدولية السابقة نتج عنهما تقلص الوزن العربي في الخارطة الجيوسياسية العالمية إلى حد بالغ الخطورة، وأصبح الرهان الاستراتيجي العربي منحصرا في خيارين مسدودين هما من جهة الانكفاء على الخصوصية الوطنية والقومية أو الاندماج من موقع هامشي ضعيف في ديناميكية العولمة الأمريكية. ان ما فات العرب هو التنبه إلى مؤشرات بروز حوار واسع داخل السياق الغربي نفسه إزاء الإشكالات والقضايا الجوهرية التي تطرحها ظاهرة العولمة في ما وراء ظواهرها الموضوعية التي لا سبيل للتنكر لها. وأبرز هذه الإشكالات التي تستأثر راهنا باهتمام المنتديات الاجتماعية الأوروبية، بل والطبقة الفكرية السياسية في الغرب إجمالا، ثلاث إشكالات هي:

أولا: نمط الحاكمية العالمية، أي أسلوب إدارة وتسيير روابط التوحد والتداخل العضوي بين الأمم والدول التي أصبحت حقائق ساطعة. فكيف يتسنى ضبط توازنات النظام العالمي الجديد، هل يكون عن طريق مفهوم تقليدي للسيادة القومية كما هو الشأن حاليا في التوجه الأمريكي الذي يفضي للنكوص إلى مفهوم الإمبراطورية المهيمنة الذي لم يعد يلائم معطيات واستحقاقات الوضع العالمي الجديد في بنياته العميقة (انحسار الدولة المركزية وبروز فاعلين محوريين داخليا وإقليميا ودوليا يتقاسمون معها وظائفها السيادية التقليدية)، أم يكون حفظ هذه التوازنات عن طريق مقاربة جديدة للشراكة الإقليمية والدولية كما تدافع البلدان الأوروبية وبعض القوى الصاعدة في آسيا وجنوب أمريكا؟

ولا شك أن الطرف العربي المفكك والضائع لا يزال غائبا عن هذا الحوار الاستراتيجي الكثيف الذي يمثل رهانا أساسيا في فلسفة العلاقات الدولية ونمط إدارتها.

ثانيا: العلاقة بين اقتصاد السوق الذي غدا واقعا عالميا لا انفكاك منه وطبيعة المجتمع الذي يفرزه هذا الاقتصاد، هل سيكون بالضرورة مجتمعا تتحكم فيه معقولية السوق وأخلاقياته من معايير ربح ومردود نفعي وتنافس محموم وفردانية مشطة، أم أنه يمكن أن يتأسس على مقاييس التعاضد والتضامن والإدماج التي هي جوهر رابطة المواطنة على مستوى الكيانات القومية بقدر ما هي لب المفهوم الجديد للمواطنة العالمية بصفتها تحقيقا لمعيار الوحدة الإنسانية الذي يمثل الإطار العميق للعصور الحديثة. إن هذا الإشكال يكتسي أهمية خاصة في دائرتنا العربية الإسلامية التي تشكل مكونا رئيسا من مكونات العالم الجنوبي الذي هو الطرف الخاسر في معادلة توحد السوق الرأسمالية نتيجة لضآلة موارده وضعف موقعه التفاوضي وهشاشة قدراته التنافسية، مما ينعكس بالسلب ضرورة على إمكانات استفادته من الفضاء التبادلي الجديد المفتوح، بيد أنه إشكال مطروح بالحدة ذاتها داخل المجتمعات الأوروبية المتطورة التي تدافع عن سياساتها الاجتماعية التعاضدية في مواجهة نمط الحياة الأمريكية المتوحش.

ثالثا: رهان التنوع الثقافي وضرورة استثناء المقاييس الروحية واللغوية والقيمية والموارد الثقافية من منطق القولبة الأحادية الجارفة. ويشكل هذا الرهان محورا أساسيا في السياسات الثقافية الأوروبية وساحة صراع محتدم في المدى المنظور بين الفضاءات الثقافية المهددة التي تنتمي إليها الأغلبية الساحقة من البشرية والنمط الحضاري الأمريكي الذي غدا في منظور المحافظين الجدد الماسكين بسلطة القرار اليوم في الولايات المتحدة، وصفة آيديولوجية جاهزة للتصدير من منظور كون هذا التصدير من الشروط الموضوعية لضمان حفظ المصالح الأمريكية في العالم. وبطبيعة الأمر يشكل هذا الرهان أحد الملفات الساخنة على أجندة علاقات الدائرة العربية الإسلامية بالولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة بلغ التطرف الأصولي فيها أوجه وتسارعت ضرباته العدوانية ووصلت الى أقدس المواقع لدى المسلمين، في حين يميل المتعصبون الإنجيليون المحافظون المتشددون في امريكا إلى اختزال المنظومة العقدية والقيمية الإسلامية الثرية والرحبة في هذا اللون العدمي البائس الذي ابتليت به الأمة.