مفارقات عجيبة على أرض الرافدين

TT

«ما أن سقط الطاغية حتى فُتحت كل أبواب الشرّ في بغداد»

ظللت، وعلى مدى اسابيع من سقوط بغداد والهروب المشين لقادة العراق المجرمين او استسلامهم خوفا من ثأر الشعب، اتأمل في مغزى هذه العبارة التي هزت كل اعماقي بعد ان وصلتني ضمن رسالة فرحة ومستبشرة بالمستقبل، لكنها خائفة على بغداد التي تعرضت للغدر، وردت من ابنتي التي تقول انها لا تتذكر وجهي بعد ان تركتها لـ24 سنة خلت. ولم اتوصل الى أي فهم لمغزى هذه العبارة التي تهتز لها المشاعر، اذ وبينما ينبغي حدوث العكس، أي ان تفتح كل ابواب الخير بعد زوال الطغيان، وقع العكس.

ثم فهمت العبارة بطريقتي: ابواب الشر لا تفتح الا عندما يدخل الاشرار، او ربما «الشرير الاكبر» نفسه! ولم يتسن لي حتى الآن ان ادقق معنى العبارة من كاتبتها. ويؤكد تصوري هذا، ما كتبه مراسل صحيفة «التايمز» البريطانية مارتن فليتشر، في عدد الاثنين 3 نوفمبر 2003، غداة اسقاط هليكوبتر نقل عسكرية الأحد الذي سبقه ومقتل 15 عسكريا أميركيا على متنها، تحت عنوان «كيف تحول المحررون الى محتلين في ظرف ستة اشهر»، اذ سرد ما قاله له خريج عراقي من كلية الطب اسمه علي، حول سقوط الطاغية ودخول الأميركيين: «لقد كان ذلك شبيها بخيار بين السرطان وبين الموت». ثم شبه علي التدخل العسكري الأميركي بعملية اقتلاع ورم سرطاني، الا ان المشكلة ان «العملية نفذت بمبضع ملوث» مما أدى الى تفشي العدوى في جسم العراق!

ولأن عبارة صغيرة «دوختني»، فان الكثير من المفارقات العراقية ما تزال مستغلقة على فهمي، رغم ان كتّاب الشأن العراقي، وما اكثرهم اليوم، يبدون «فاهمين» لمجريات الامور. و«التفاهم» بالدراجة العراقية تعني «العالم بالامور»، على عكس «الفهيم» ذات المغزى الساخر.

تجري على ارض الرافدين مفارقات كبرى يندر حدوثها، فبينما كانت أميركا وبريطانيا تمزقان القانون الدولي بحجج مزيفة ثبت كذبها، وتستبيحان حرمة الاراضي العراقية باسم التحرير، برزت المفارقة الأولى عندما ظهرت الى العلن أولى علائم التحالف على الارض بين هاتين القوتين المعروفتين بتاريخهما الاسود في امتهان حقوق الشعوب، وبين احزاب من الاسلاميين العراقيين المعتمدة طائفيا، بل وحتى الحزب الشيوعي الذي دخل مجلس الحكم الانتقالي مع مندوبي الاحتلال من عراقيي الخارج، بحماية الدبابات الأميركية.

قبل 40 عاما وفي فبراير (شباط) عام 1963، وصل حزب البعث العربي الاشتراكي لأول مرة الى سدة الحكم في العراق «بقطار أميركي» كما قال نائب رئيس الوزراء في ذلك العهد البعثي الأول، علي صالح السعدي، بعد ازاحته من الحكم. وفي يوليو (تموز) 2003 يدخل الشيوعيون العراقيون في مجلس طائفي معين من قبل ادارة التحرير ـ الاحتلال بـ«دبابة أميركية».

هذه مفارقة تاريخية فعلا، هي الأولى في العالم على الأقل في القرن الحادي والعشرين التي توحد فيها قوى الشيوعية المحلية في بلد ما، جهودها مع قوى الامبريالية الدولية، فور اجتياح هذه الاخيرة للبلد واحتلاله. وقد شهد القرن الماضي «اعتكاف» بعض القوى الشيوعية المحلية وتوقفها على منازلة الحكام الاستعماريين في بلدانها، اثناء الحرب العالمية الثانية، بايعاز من المركز السوفياتي حينذلك، بهدف النضال المشترك ضد الفاشية الألمانية. هذه المفارقة الأولى تبدو متممة لمفارقة اخرى تظهر في تحول الدول الشيوعية السابقة الى ادوات طيعة بيد الامبراطورية الأميركية الجديدة، حيث يدخل العراق المستباح اليوم من هبّ ودبّ من حثالات الأمم، فبعد بولندا التي كانت تعاني لقرون من حزمات عساكر الجيوش الألمانية والروسية، والتي خدمت قواتها تحت امرة الروس لأكثر من اربعة عقود في القرن الماضي، دخل الأوكرانيون والكازاخ وحتى المغول. وكل هذه الحثالات الدولية وما شابهها تأتمر اليوم بأمر الأميركي.

هل ان الرغبة في خدمة العراق ام الارتزاق السياسي، هما اللذان دفعا بعض الاحزاب الاسلامية العراقية نحو «التوافق» مع المحتل الأميركي، ومسايرة الامور، ولسان حالها يقول: علّ وعسى؟ وبالنسبة للشيوعيين، يضاف سؤال آخر من قاموسهم الفلسفي: هل ان الحتمية، ام الصدفة قادتهم الى التعاون «الأمم» مع الاحتلال الأميركي لبلادهم، ام ان الطريق الذي سلكه الرفاق السابق ببيع اشلاء الاتحاد السوفياتي السابق الى حكم المقاطعات الذين سلبوا اموال شعوبهم وافقروها، وبالتعاون مع أميركا، هو الذي مهد لهم «الخط الآيديولوجي الجديد»؟ والحتمية حسبما يعرّفها المنظرون في الفسلفة هي «العلاقة التي ينبغي ان تحدث، أي تقع» اما الصدفة هي «جانب من جوانب الحتمية».

لم يعد الانسان يعي، في ظل هذه المفارقات، ما يجري في العراق، فلم نسمع بمظاهرة او حشد سياسي يخطب فيهما أي من «ممثلي الأطياف العراقية» الذين يطبل لهم «كتاب المنافي» العراقيون الجليلون الذين يدبجون المقالات عن العراق وحكامه الجدد. ولم نسمع عن مشاركة «الأطياف» بمناظرات فكرية او ندوات جامعية تبحث شؤون العراق وعلاقة الشعب مع الاحتلال، ولم نسمع بأي شجب حقيقي او استنكار للمهانات اليومية التي يتعرض لها أفراد الشعب على يد المحتلين. كما لم نسمع بأي مناقشات حول انتهاك المعاهدات الدولية بعد اعلان الحاكم بريمر تغيير القوانين، خصوصا بيع مرافق الاقتصاد العراقي لكل من هب ودب من الأميركيين والاسرائيليين.

ومن دون طرح مثل هذه الآراء وتحديد المواقف امام الجموع، كيف يمكن لأي عراقي ان يدلي بصوته الى ذلك الفريق او هذا في انتخابات موعودة قريبا. وكيف يعرف البسطاء من الناس أيا من الاطراف سيحقق لهم الاستقرار والأمن فعلا، ولقمة العيش ايضا.

المفارقة الاخرى، كامنة، حيث تتجلى من بعيد، على شكل حشود من المؤمنين المسالمين الذين يؤمون الصلاة والاحتفالات الدينية اليوم، الا انهم قد يتحولون بين لحظة وضحاها الى شعلة تحرق كل «الانتقالية» العراقية، تضاف اليها حشود اخرى من جماهير السيد مقتدى الصدر، الذي قد يشكل وينحت في يوم ما «مرحلته الانتقالية»، اللهم الا اذا اجبر على الابتعاد من الساحة، كما بدأ يتجلى اخيرا بفضل ضغوطات «المتعقلين» و«الجيران» ايضا!

الا ان مفارقة المفارقات تتمثل في احتمال ان يقود تخبط الأميركيين الى عقد صفقة كبرى مع فلول المجرمين السابقين، بعد ان عقدوا سلسلة من الصفقات الأصغر مع اعوان النظام السابق، وقيام قواتهم بحماية بعض المجرمين الذين تعاونوا معهم.