خطاب بوش: الحرب والديمقراطية في وعاء واحد

TT

هل تستطيع البلاغة أن تحل محل السياسة؟ هذا ما حاوله كما يبدو، الرئيس الأميركي جورج بوش، في خطابه الأوروبي الذي ألقاه في القصر الملكي البريطاني. لقد كانت «أميركا» تخاطب «أوروبا» في ذلك الخطاب، وكانت «القيم» تتقافز في القاعة المهيبة في قصر باكينغهام، وكان التاريخ حاضرا بكل ثقله ساعيا إلى أن يجدد نفسه، فيسمو الرئيس الأميركي الحالي إلى مكانة رؤساء أميركيين سبقوه. كانت هذه الرغبة جياشة إلى حد لم يمنع الرئيس جورج بوش من الإشارة إليها، فهو أراد أن يذكر جميع المستمعين أن الرئيس وودرو ولسون كان قد حل قبله ضيفا على بريطانيا عام 1918، وحضر مأدبة عشاء أقامها له الملك جورج الخامس، وأقسم في المأدبة «على أن يصبح الحق والعدالة القوة المهيمنة والمسيطرة على العالم»، وها هو الرئيس الأميركي الجديد يصل إلى بريطانيا كما فعل سلفه ولسون، ويلقي خطابا في قصر باكينغهام كما فعل سلفه ولسون، ويقسم مثله على أن يصبح الحق والعدالة قوة مهيمنة على العالم، ولا يبقى إلا أن يقر له الجميع بأنه ولسون الجديد، أو ولسون الذي يتجدد من خلال جورج بوش الابن.

يذكرنا بوش بان سلفه جاء إلى اوروبا حاملا معه نقاطه الأربع عشرة للسلام، وهي التي اشتهرت باسم مبادئ ولسون، والتي أطلقت حركة التحرر من الاستعمار، ومبدأ حق تقرير المصير، وتم طبخ تلك المبادئ على نيران الحرب العالمية الأولى. وها هو جورج بوش الإبن يصل إلى أوروبا حاملا معه مبادئه الثلاثة (تقوية دور المنظمات الدولية، كبح جماح العدوان والشر بالقوة، الالتزام بنشر الديمقراطية)، وما دام هذا هو الحال، فلماذا لا يتوج الرئيس الجديد رئيسا تاريخيا كسلفه، وأن يتم ذلك من بوابة قصر باكينغهام، كما تم تتويج ولسون تاريخيا من بوابة قصر فرساي الفرنسي؟

ثمة فوارق بين مسعى الرجلين. لم يسع الرئيس ولسون إلى أن يصبح رجلا تاريخيا، ولكنه أصبح كذلك بحكم الخبرة والتجربة والثقافة والممارسة. أما جورج بوش الابن فهو يسعى إلى الأمر بشغف، حتى أن مساعديه أعدوا له خطابا «تاريخيا» حافلا بالمبادئ والقيم والإشارات التي تنم عن تضلع في الثقافة والمعرفة، لكي يتم عبر كل ذلك تأهيله للموقع الذي يتطلع إليه. كما أن سلفه ولسون كان رجلا ذا ثقافة عالية، حتى أنه ألف كتبا، أحدها عن «حكومة الكونغرس في الولايات المتحدة» (عام 1908)، وآخر عن «تاريخ الشعب الأميركي» في خمسة أجزاء عام 1902، أما الرئيس جورج بوش الإبن فلا حظ له من الثقافة سوى ما يحصل عليه الشباب الأميركيون العاديون، وبخاصة إذا كانوا من أبناء العائلات المقتدرة ماليا.

ولكن نقطة شبه تبرز بوضوح بين الرجلين، فبالرغم من القيم والمبادئ، وبالرغم من شعارات حق تقرير المصير أو الديمقراطية، فإن مصالح الولايات المتحدة دفعت الرئيسين نحو شن الحروب. ولسون شن حربا ضد هايتي (1915)، وضد الدومينيكان (1916)، وضد المكسيك (1917)، أما حروب الرئيس بوش فنحن نعيش فيها ونعانيها ونتحسس رؤوسنا صباح كل يوم بسببها.

ولكن ما يلفت النظر حقا في مسعى الرئيس بوش، أن سلفه ولسون انتصر في اوروبا ثم خذلته بلده أميركا. أنجز في باريس صلح فرساي، وتم تشكيل «عصبة الأمم المتحدة»، وحظي هذا العمل بدعم دول وحكومات كثيرة، ولكن الحكومة الأميركية بمؤسساتها رفضت أن تمنح ولسون التأييد نفسه الذي ناله في اوروبا، فرفض الكونغرس الأميركي المصادقة على معاهدة فرساي، وبقيت الولايات المتحدة الأميركية خارج «عصبة الأمم المتحدة» وهي التي صاغت ميثاقها. ولذلك فإن مسعى بوش الحالي للتشبه بولسون ينطوي على حدث قد يكون نذير شؤم بالنسبة إليه، فهو قد ينجح مع توني بلير رئيس وزراء بريطانيا، وقد يحصل على «شفاعة» الملكة اليزابيث كما طلب بنفسه في خطاب قصر باكينغهام، ولكن ماذا لو أعاد التاريخ نفسه، ورفض الكونغرس أو الناخب الأميركي تجديد البيعة لما تم الاتفاق عليه في العاصمة الأوروبية؟ حين واجه ولسون هذا الموقف كان رجل تاريخ، فاعتزل السياسة، فهل سيرقى مسعى بوش للتشبه بولسون إلى هذا المستوى؟ منظمو حملته الانتخابية يجزمون سلفا بأن ذلك لن يحدث أبدا، فهاجس التجديد أقوى من أي حديث عن القيم أو عن المكانة التاريخية. تبقى نقطة جديرة بالملاحظة. فالرئيس ولسون الذي يسعى الرئيس بوش للتشبه به، كان من الحزب الديمقراطي، بينما ينتمي بوش إلى الحزب الجمهوري وإلى الجناح اليميني المتشدد داخل هذا الحزب. ويشن الحزب الديمقراطي حاليا حملة إعلامية ضارية يحاول بواسطتها إسقاط بوش ومنعه من العودة إلى منصب الرئاسة الأميركية، بينما يتمسك بوش بشيء من تراث هذا الحزب المعارض لتلميع صورته السياسية ودفعها نحو موقع تاريخي، فماذا لو عرض عليه الحزب الديمقراطي أن يكون أمينا مع نفسه، فينتمي إلى حزب الرئيس الذي يريد أن يتشبه به وبأفكاره؟ هل يستطيع الرئيس بوش أن يتخلى عن الحزب الجمهوري؟ هل يستطيع أن يتخلى عن المحافظين الجدد؟ هل يستطيع أن يتخلى عن المسيحيين الصهيونيين؟ إن الأسئلة صعبة بحيث يستحيل التفكير فيها. بعيدا عن هذا كله، وإذا توقفنا عند كلمات الرئيس جورج بوش، فإننا نلمس فيه مصلحا أخلاقيا كبيرا، داعية أو مبشرا، يضم يديه أمام وجهه، ويحني رأسه بتواضع، ويقول لمن أمامه بصوت هامس «إننا نؤمن بالمجتمعات المفتوحة التي يحكمها الإيمان بالتعاليم الأخلاقية. إننا نؤمن بالسواق الخاصة التي يضفي عليها نظام الحكم الرؤوف مسحة من الإنسانية. إننا نؤمن بالمجتمعات المحلية التي تحمي الضعفاء، وبواجب الدول باحترام كرامة وحقوق الجميع». لا شك أن اسقف كانتربري كان ضيفا في قصر باكينغهام، واستمع كغيره إلى هذه الكلمات من فم الرئيس، ولكنه وحده ربما، الذي شعر بالغيرة من هذه الكلمات، فهي كلمات جديرة بأن ترد على لسانه كأسقف، بينما هي كلمات ترد على لسان سياسي يخوض الحروب بالبساطة نفسها التي يلقي بها هذه الكلمات. ولكن شعور الغيرة هذا سيتلاشى بعد دقائق معدودة، حين يواصل الرئيس خطابه ويتحدث عن ضرورة «كبح جماح العدوان والشر بالقوة.. فقد عهد إلينا الشعب بمهمة الدفاع عنه، وتتطلب تلك المهمة أحيانا استخدام العنف.. ويشكل استخدام العنف بشكل مدروس.. كل ما يحمينا من عالم تعمه الفوضى وتحكمه القوة». إن المبشر يختفي هنا بسرعة، ويبرز العسكري المقاتل ليقود ليسود الأمم، وساعتها يستطيع الأسقف أن يخرج بهدوء من الحفل، وأن يمضي إلى كنيسته ليصلي ويستغفر الرب لعله يلجم دعاة القوة ويحمي منهم الشعوب الضعيفة.

عام 1947 كان يوجد شخص أميركي يدعى جورج كينان. كان مسؤولا عن التخطيط في وزارة الخارجية، وهو مهندس مشروع مارشال لمساعدة اوروبا، وهو ايضا الذي اخترع مفهوم «الكذب الضروري» كمكون أساسي من مكونات الدبلوماسية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، ويبرر ذلك قائلا بأن الاتحاد السوفياتي يحارب الولايات المتحدة باللاحقيقة واللامنطق. وهو يتساءل هل نستطيع أن نحارب الكذب بالصدق؟ والجواب طبعا معروف، وقد تمت ممارسته على امتداد سنوات الحرب الباردة الخمسين. فهل نحن الآن على أبواب حرب قوامها الكذب من جديد؟