شاعر أغاظني

TT

يغيظني غيظ العجز والعمى ذلك الشاعر الذي قال «متفشخرا» بوطنيته مطلع القرن الماضي:

بنت العروبة هيئي كفني

انا عائد لأموت في وطني

ما ضره ـ غفر الله له ـ لو قال: عائد لأعيش في وطني، فهل من العيب ان نعود للأوطان لنستمتع بها وتحنو علينا ونعيش فيها بعد كل هذا الصقيع المديد؟

أكيد هو شاعر مهجري وأكيد من الارومة التي تفرجت على حسنات العروبة عن بعد وضخمتها يعني لم يستوقفه شرطي مرور ولا طرده مطار ولا شاهد الاجانب يعبرون بنعال من ريح على طريقة رامبو ويدخلون البلاد العربية من دون أي تعقيد بينما هو العربي القح يدوخ دوخة ارملة في دائرة المعاشات قبل ان يحصل على تأشيرة.

وأكيد ـ مع اني والله لا اذكر القائل ـ انه سوري او لبناني، فهؤلاء الذين صرعوا العالم، مهاجرين ومقيمين بالعروبة، صاروا اول ضحاياها ويكفي ان يروا العقيد يمد لهم لسانه شامتا بعد ثلاث وثلاثين سنة عروبة نضالية ليطقوا قهرا خصوصا من هو في ليبيا منهم، فها هو العقيد يبيعهم بأهل غينيا وموزامبيق وبوركينا فاسو ولا فضل لعربي على افريقي الا بمقدار قربه من قلب العقيد الذي اغتاظ من بيروت التي لا تريد السكوت على قصة اختطاف قديمة فعاقب 22 عاصمة وثلاثمائة مليون عربي.

ويقولون في بيروت انها ليست قضية اختطاف وحسب، بل تصفية عن طريق مالطا. وما له يا عرب القهر وها هي اميركا بجلال قدرها تسكت ـ وتلم الموضوع الذي بدأ في مالطا ـ ببضعة مليارات، فما لكم لا تحلّوا عن الرجل وتحددوا ـ على الطريقة الفرنسية ان كنتم تكرهون أميركا ـ ثمن دم الشهيد الخالد لنستعيد العقيد للعروبة ونحضر انفسنا لنعود للموت فوق ترابها مثل هذا الشاعر الذي اغاظنا منذ كنا في الثانوية وما يزال.

وأظنه من دون ان اعود الى أي مرجع ـ قصدا وزيادة في تعذيب الذات ـ ليس جورج صيدح ولا احد المعلوفين ولا من شعراء حمص، فهؤلاء يحبون الحياة ولا يقعون في هكذا غلطة حتى في يوم الاربعاء، لذا واعتمادا على الاساليب وما تبقى من ثقافة ذلك الزمان البعيد اشم فيه رائحة الشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي زارنا حين كنا طلابا في جامعة حلب وقدمه لنا عمر الدقاق على انه اكبر شعراء العروبة طبعا، ولما لا يكون، ألم يعد الى بنت العروبة ليأخذ كفنه ويرتاح بعد ان امضى عمره واعطى شبابه لبلاد اخرى؟

وكان ذلك في السبعينات قبل ان يوسد لحده بكفن بنت العروبة بقليل، وقد شكرناه على الزيارة وكظمنا غيظنا وسامحناه، لكننا لم نسامح اؤلئك الذين اختاروا هذا البيت بالذات وكأنهم يقولون لنا: ارض العروبة مقبرة كبرى فلا تعودوا اليها الا بعد ان يقترب منكم ملك الموت وتنتهي بنات العروبة من تحضير الأكفان الملائمة لكم.

يا قوم نكاية بهذا الشاعر الذي اغاظني اجعلوا بلاد العروبة جديرة بالحياة، فكل العقول المهاجرة والاجساد المتعبة تريد العودة للعيش في الوطن العربي لا للموت فيه، ولا تصدقوا ذلك الشاعر ـ المتفشخر ـ فهو من جيل ثقافة الموت وثقافة المؤامرة وثقافة العنجهية وثقافة العدم، فالاوطان الحقيقية تزهو بأبنائها ويزهون بها وتمنحهم متعة العيش فوق ترابها بكرامة وحرية لا تحت التراب بغيظ وغبن وقهر، فما بين الفوق والتحت يكمن الفرق بين الوطن والمقبرة.