هل ستحصل المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة غدا؟

TT

هذا الأسبوع كان حافلاً بالأحداث ذات الدلالة، وسوف أركز على همومنا نحن العرب والمسلمين بشكل أساسي، ولكن بعد أن أقول كلمة عابرة عن احداث جورجيا السعيدة. فقد حصل التغيير فيها بسلام عن طريق انتفاضة الشعب ودون إراقة دماء، والأهم من ذلك، هو أن التغيير لم يحصل باسم العودة إلى الوراء، أي باسم القيم الأصولية العتيقة، وإنما باسم الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد الشائع في أوساط الحكم، كما وتم باسم التنديد بالجمود السياسي، الذي كان سائداً أيام الرئيس السابق شفرنادزه، وهذا خبر سعيد بالنسبة لشعوب المنطقة المجاورة. لقد علّمنا شعب جورجيا الدرس التالي: «التغيير ينبغي أن يحصل باسم قيم المستقبل لا قيم الماضي، باسم التقدم إلى الأمام لا العودة إلى الوراء»، وهذا الدرس موجه بشكل خاص إلى الشعوب الإسلامية والعربية.

أنتقل الآن إلى الموضوع التالي، الذي حظي باهتمامنا هنا في فرنسا. وأقصد به، تلك المناظرة التلفزيونية الرائعة، التي حصلت بين وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي، وبين النجم الصاعد للجاليات الإسلامية في أوروبا طارق رمضان. فقد كانت مهمة على أكثر من صعيد، وأتاحت توضيح بعض النقاط التي لم يكن يتجرأ أحد على توضيحها بسبب حساسيتها وخطورتها.

لقد ركّز الوزير الفرنسي هجومه على ثلاث جبهات: جبهة معاداة اليهود بشكل عام أو ما يُدعى بـ «معاداة السامية»، وجبهة الحجاب الإسلامي، وجبهة إقامة الحدود، وبخاصة حد الرجم على المرأة المخطئة.

وكان موقف طارق دفاعياً على الجبهات الثلاث دون أن يعني ذلك أنه خرج منهزماً من المعركة، صحيح ان المناظرة اتخذت في بعض مناحيها هيئة الملاكمة أو المصارعة، لكن ذلك كان ضرورياً للخروج من المواقف المترجرجة أو المتذبذبة. والحال هو أن المناظرة الحقيقية هي تلك التي ليس فيها غالب أو مغلوب، إنما فقط عملية توضيح أو فرز دقيق للمواقع، وهذا ما حصل في النهاية.

ردّ طارق رمضان على الهجوم الأول بأنه ليس معادياً للسامية أبداً، وأنه يحارب ذلك منذ خمسة عشر عاما، ويدين موقف رئيس وزراء ماليزيا «مهاتير محمد»، الذي اتهم اليهود بأنهم يحكمون العالم، وهذا موقف شائع في أوساط اليمين المتطرف عربياً أو إسلامياً، لكنه فقط يدين ممارسات حكومة شارون واليمين المتطرف في الأراضي الفلسطينية المحتلة. واعتقد أن موقفه هنا كان قوياً ولا غبار عليه، نقول ذلك وبخاصة أنه يدين سياسة نظام ولا يشكك بمشروعية الدولة العبرية، كما صرح في برنامج سابق، ولكن موقفه كان أضعف في ما يخص مقالة نشرها سابقاً وأدان فيها بالاسم بعض مثقفي اليهود الفرنسيين متهماً إياهم بالدعم المطلق للسياسة الإسرائيلية.

فالواقع أنه ما كان ينبغي أن يقع في هذا المطب، الذي وقع فيه جان ماري لوبن، زعيم اليمين المتطرف في فرنسا. ما كان ينبغي عليه أن ينظم لائحة بأسماء هؤلاء المثقفين ويشير إليهم بالبنان على رؤوس الأشهاد، فتنظيم اللوائح عملية خطيرة ولها سوابق مرعبة أيام النازية والفاشية. وقد اعترف رمضان في ما بعد بأنه ارتكب هفوة ولم يحسن التعبير عن فكرته كما ينبغي. لكن الوزير قال له بأنه ارتكب أكثر من هفوة: لقد ارتكب خطيئة حقيقية، فهناك ستة ملايين ممن قتلوا عن طريق اللوائح والقوائم، هنا كان موقف الوزير على حق. نقول ذلك وبخاصة أن بعض هؤلاء المثقفين، كبرنار هنري ليفي واندريه غلوكسمان، يلعبون دوراً تقدمياً وإنسانياً لصالح المضطهدين ـ ومن بينهم مسلمون كثيرون ـ في افغانستان، والشيشان، والبوسنة، وكوسوفو.

ثم ركز الوزير هجومه الثاني على مسألة حد الرجم، وسأله: هل يؤيد رجم المرأة المخطئة كما فعل أخوه هاني رمضان؟ من المعلوم أن هذا الأخير نشر مقالة يؤيد فيها رجم المرأة النيجيرية التي شغلت العالم قبل فترة وشكلت فضيحة. هنا حاول طارق أن يتهرب من الجواب الصريح عن طريق القول بأن هذا الحكم غير قابل للتطبيق، ولكن الوزير حاول أن يحشره في الزاوية أكثر، عن طريق القول: هل انت معه أم ضده؟ أريد جواباً واضحاً. وهنا وجد طارق طريقة ماكرة للتهرب من الجواب مرة أخرى عن طريق القول بأن رأيه ليس هو المهم، إنما رأي جمهور المسلمين، وأنه إذا ما انفصل عنهم أكثر مما يجب فقد التواصل معهم ولم يعد يستطيع تمثيلهم. وعندئذ لا يعود وزير الداخلية بحاجة للتناقش معه أصلاً، هنا بدا موقف طارق رمضان صعباً وحرجاً للغاية، فهو إذا ما وافق الوزير على إدانة رجم المرأة باعتباره ممارسة قروسطية لا تليق بالعصور الحديثة وقيمها، فقد قاعدته الشعبية لدى الأصوليين، وإذا لم يفعل فقد ألمعيّته ومصداقيته كمثقف مسلم حديث يدرّس الفلسفة في جامعات سويسرا، فما العمل؟!.

هنا تكمن المعضلة الحقيقية التي تواجهنا جميعاً، والتي تتوقف على حسمها مسألة المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة يوماً ما. ولكن لتبيان مدى جرأة موقف طارق ومحدوديته في ذات الوقت، ينبغي العلم بأن المسلمين في فرنسا وعموم أوروبا ينقسمون إلى تيارين أساسيين: الأول هو تيار الأصوليين والمتزمتين، والثاني هو تيار المسلمين العلمانيين أو التحديثيين. والقسم الأول الذي يدعم رمضان لا يزال هو الغالب سوسيولوجياً، أي عددياً، ولا غرابة في ذلك، فالجامعة الإسلامية هنا هي صورة عن العالم العربي أو الإسلامي نفسه، لكن ربما كان من الظلم أن نحشر طارق كلياً في فئة الأصوليين، فالواقع أن له مواقف تحديثية وعقلانية في ما يخص بعض القضايا، وربما كانت له رجل هنا ورجل هناك، لذلك يُتّهم بأن مواقفه ازدواجية أو متذبذبة أو غير واضحة، فهو من جهة لا يريد أن يخسر شعبيته لدى التقليديين، وهو من جهة ثانية لا يريد أن يبدو تقليدياً!.

لكني اعتقد بأن الوزير أجبره على أن يمشي بالمسلمين المحافظين خطوة جيدة وإيجابية إلى الأمام، من هنا أهمية هذه المناظرة التي لم أر مثيلاً لها في السنوات الأخيرة، فحتى في ما يخص مسألة الحجاب في المدارس الفرنسية، اضطر طارق إلى تقديم تنازل مهم للحداثة، وحسناً فعل. فقد قدم بذلك خدمة لجاليته وطائفته عندما قرّب بينها وبين المجتمع الذي تعيش فيه. وهذا ما لا يفعله الأصوليون الأغبياء، الذين يريدون أن تحصل حرب بين الجاليات الإسلامية والجو المحيط بها، وعندئذ سوف يكون الخاسر هو المسلمون أنفسهم وليس المجتمع الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني.. إلخ، فالذي يريد أن يعيش في مجتمع ما ينبغي أن يحترم قوانينه، وإلا فليرحل عنه وليرجع إلى مجتمعه الأصلي. فالفرنسيون والأوروبيون بشكل عام، لم يخوضوا المعركة ضد أصوليتهم المسيحية بالذات على مدار ثلاثمائة سنة، لكي يقبلوا الآن بالخضوع لأصولية دين آخر غير دينهم، ولكن طارق كان على حق، إذ دعا إلى تحسين أوضاع الجاليات المهاجرة الفقيرة التي تنتشر البطالة في أوساطها مما يدفعها إلى التطرف أحياناً. بقيت كلمة أخيرة عن الأحداث التركية، هنا أيضاً نلاحظ أن الرهان الأكبر لكل العملية يخص مسألة المصالحة بين الإسلام والحداثة أو تأجيج الحرب الشعواء بينهما. فمن الواضح أنه لا مصلحة لجماعة «القاعدة» وبقية المتزمتين في نجاح التجربة التركية الحالية. فحزب العدالة والتنمية الذي يمثل خط الإسلام الوسطي (كنتم أمة وسطا) ويحاول إيجاد معادلة توفيقية بين الإسلام وقيم الحضارة الأوروبية يشكل خطراً على بن لادن أكثر من صواريخ جورج دبليو بوش وطياراته! ولو أن تجربته نجحت لأثبتت للمسلمين أجمعين أن هناك تأويلاً آخر لرسالة الإسلام والقرآن غير التأويل الظلامي الذي يحاولون أن يفرضوه علينا وكأنه التأويل الوحيد الصحيح!.