كثير من النقد.. قليل من التأثير

TT

لا بد من التوكيد، في البداية، على أن النقد هو المتراس الأول ضد الخطر والحامي الأصدق; لذلك، فلا بد من إيجاده إن غاب أو خاف الظهور. فهو الوجه الآخر من الحقيقة، لأن الحقيقة لا تملك وجها واحدا باستمرار.

بهذا المنظار ينبغي قراءة الفورة النقدية في العالم العربي، التي تنقد الراهن وترسم ملامح المستقبل المنشود. لكن ما مدى التأثير الذي يمكن أن يلعبه النقد الذاتي لجهة التقدم والتطور المدني و(غزو المستقبل).

اذا ابتعدنا عن العطش الحارق لدى الفرد العربي لنقد السلطة وأجهزتها الرسمية، التي جثمت على أنفاسه واحتجنت المال والحياة كلها دونه، وهذا ما ينطبق على كل فرد خاضع لنمط ديكتاتوري. بعيدا عن هذا العطش، يجب ان نتجاوز ظاهر الخطاب النقدي الى باطنه، ولذة الارضاء النقدي الى فائدته.

يقول المفكر العراقي هادي العلوي «الدولة في الشرق كما في الغرب لم تكن معنية بقضايا العدل. فهذه كانت، وما زالت، هم المعارضة ما دامت معارضة. وكان الصراع على العدل هو محور العلاقة بين المعارضة والدولة، أي بين الناس والحاكم: الناس يريدون العدل، والحاكم يريد الحكم. وقد بدا لأمد طويل ان الحاكم أمام طريقين لا ثالث لهما: اما ترك الحكم واما سلوك درب الطغيان».

ثم ينبهنا العلوي الى نتيجة غريبة معروفة للأسف! «لعلنا نجد في هذا تفسيراً لتحول معظم قادة المعارضة الذين تسلموا السلطة إلى طغاة، بل ان العديد من الشهداء والأبطال في التاريخ البعيد والقريب أيضا إنما كانوا شهداء وأبطالا لأنهم ماتوا قبل ان يصلوا الى السلطة»!

قد يكون في كلام العلوي ما يحبط ويشعرنا بأننا محكومون باليأس وليس بالأمل كما كان يقول سعد الله ونوس. غير ان قراءة أخرى لطبيعة هذه الجدلية التي تسيطر على علاقة الحاكم بالمعارضة تجعلنا نخفف قليلا من تصديق هذه المثاليات. ونلحّ اكثر على الممكن وليس الامثال.

وبالانطلاق من النقطة الأخيرة، نقطة الممكن; يجب الاشارة إلى أن مجرد الاحتجاج والمطالبة بالإصلاح لا يكفيان مالم يكن المطالبُ مالكا لمفاتيح التأثير وقادرا على إكساب نقدهِ نجاعة وتأثيرا، فما أكثر النقد وما اقل المؤثر منه!

أهم شروط التأثير القدرة على تحديد مكمن الداء بدقة عالية، فقد تذهب الظنون مذاهب شتى إلا المذهب الصحيح الذي يقودنا لمنبع الإشكال . فأين يكمن بالضبط مرضنا ؟ هل هو في الاستبداد السياسي أم في التخلف العلمي أم في الكلال الاقتصادي أم في الانحطاط الثقافي أم في ضعفنا العسكري أم في المؤامرات الخارجية؟.

لكل سبب من هذه الأسباب مناصرون متحمسون، فالذي يراه في الاستبداد السياسي، يؤكد على تدمير الحكم القمعي للذات الإنسانية الفاعلة، وإيجاد كائن إنساني مشوه وفاقد للإرادة. والذي يرى الداء في التخلف العلمي يؤكد على أن العلم هو الذي يقود الحضارات وهو الذي يكشف مجالات أخرى للقوة والتأثير فلولا العلم لما ملكت أوروبا الاستعمارية مفاتيح التكنولوجيا التي بها، لا بغيرها، انتصرت على المماليك في مصر الذين كانوا يواجهون مدافع أوروبا بحراب المماليك ورماحهم.

وأما الذين يرفعون شعار الاقتصاد فيقدمون الأرقام التي تثبت الهوة الكبيرة التي تفصل بين العالم العربي والإسلامي وبين العالم الغربي والشرق المتقدم، في ميدان الإنتاج وقوة الاقتصاد ومدى الإسهام في حركة الاقتصاد العالمي. فهذه اليابان الشنتوية ذات الماضي الإمبراطوري تستطيع أن تؤثر في العالم بما لا تستطيعه كوريا الشمالية النووية، ولا مقارنة.

وأما أنصار تحميل الخارج سبب ضعفنا وتبرئة الذات أو التخفيف كثيرا عنها، مثل المفكر المصري جلال أمين أو الفلسطيني منير شفيق، فيستشهدون بأننا لا نعاني من أي نقص حقيقي إلا في جانب امتلاك أسباب القوة، وانه كلما أوشكنا على امتلاكها هجم علينا الغرب وحرمنا منها، كما في تجربة دولة محمد علي باشا الذي وأد الغربُ حلمه وكبّله بمعاهدة لندن... وبالتالي فليس لدينا عائق ذاتي عن التقدم، وخصوصا في ثقافتنا الدينية، على العكس بل إن تنامي هذه الثقافة وازدهار أدبيات الرفض والانكفاء والتموضع حول الهوية بشكل حارق، ماهو إلا تعبير عن الوجه الثقافي الرافض للهيمنة، وبالتالي فهي، هذه الثقافة الدينية الحركية، تعبيرٌ صحي، ودلالة عافية لا مرض.

إذن نحن أمام مداخل مختلفة لطبيعة الازمة، وهي المداخل التي تحكم مجمل المشهد النقدي العربي منذ عقود. واعتقد أن تغلب اتجاه منها على آخر رهن بالظروف المتغيرة والمستجدات. كبروز ظاهرة الإرهاب الديني الآن على السطح وتغطيتها على ماعداها. هذا البروز طرح من جديد السؤال الثقافي عن الأزمة وأخّر الأسئلة الأخرى. ولم يلغها.

واعتقد أن النقد الحقيقي لابد أن يبدأ بأقرب الأسئلة ثم أقربها. لا أن يقفز بعيدا ليحط في الحلقة الأبعد، كتحميل أمريكا والموساد أعمال الإرهاب! متجاوزا الحلقة الأقرب; تحميل الخطاب الديني والثقافة الحدية القسطَ الأكبر من مسؤولية الإرهاب. غير متجاوزين، بطبيعة الحال حلقات الاستبداد السياسي وتهميش شرائح كثيرة واقصاءها. وحلقة الاقتصاد المحيطة بذلك كله.

إننا بحاجة ماسة للتغير والإصلاح، ولكن يجب أن يكون هذا التغيير متوفرا على شروط النجاح والاستمرار. وهذه المشاعر الغاضبة بسبب انفجار الأمن يجب ألا تجف أوراقها في صحراء الزمن وبيداء العادة ! بل تتحول إلى وقود دائم للحركة ومعين لا ينضب من الجهد.

إن المجيء للإصلاح لا بد ان يكون على الميعاد، وإن استثمار الغضب والمشاعر الانفعالية، قد يكون حجر أساس لواقع جديد، إن أفلحنا في امتلاك القدرة على إدارة هذه المشاعر. والتمتع بحساسية الزمن والتوقيت.

فبين 1878 و 1918 فقد العثمانيون 85 في المائة من الأراضي و75 في المائة من شعوب الإمبراطورية. وكانت المائة سنة الأخيرة قرنا للتفكك المتواصل. والمفارقة أنها نفس الفترة التي شهدت الإصلاحات القانونية ونفس الفترة التي شهدت وجود مصلحين إداريين وسياسيين كبار أمثال الوالي مدحت باشا والي بغداد، وهي نفس الفترة أيضا التي شهدت صدور قانون الأراضي لعام 1858 الذي كان إصلاحا زراعيا كبيرا وتوخيا للعدل في توزيع الثروة، ولكن منذ صدور هذه القوانين وحتى انهيار الدولة العثمانية عام 1918، وخلالها لم تؤد الإصلاحات العثمانية و(التنظيمات) إلى شيء يذكر. لقد صدقوا في التغيير ولكن فاتهم قطار الزمن.

وأما استثمار مشاعر الصدمة لخلق واقع تقدمي دائم فله شواهد كثيرة منها ما أشار الكاتب الكويتي احمد الديين، حول المطالبة التي برزت من الكويتيين في عام 1921م بعد وفاة أمير الكويت الأسبق الشيخ سالم المبارك الصباح، وبعد موقعة الجهراء التي هددت الوجود، حيث برزت حينها مطالبة بوجود حكم يقوم على الشورى، ومطالبة بإقامة مجلس الشورى، وبالفعل قد تأسس مجلس الشورى آنذاك سنة 1921 واستمر فترة من الوقت، ولكن تضاءل دوره شيئاً فشيئاً، وهو أول مجلس منظم، نظم صيغة المشاركة الشعبية. لقد كان لصدمة المعركة العابرة أن تضمحل بعد حين، ولكن هذه الصدمة كانت، مع عوامل أخرى، سببا في تثبيت واقع إصلاحي وتقدمي وصولا إلى مجلس 1963 الشهير.

يجب ان نستثمر الزمن والمشاعر والعقول حتى لانصبح (ظاهرة صوتية) كما قال ذات يوم ناقد عربي موجع !

[email protected]