أغان ومعان أضاعتها حرب العراق..!

TT

وقفت على جوانب الطرقات في لندن في اليوم التالي وشاهدت الآلاف من معارضي الحرب ومعارضي بلير ومعارضي بوش وهم يمرون من أمامي وهم يتغنون بكل ما يمكن أن يخطر على الخيال وما قد لا يخطر من شعارات تندد بالحرب، وبدا الأمر مسليا أو قل ممتعا، ولكنه وفي المقابل محبط، لأن كل ما قيل أو تم التغني به هتافا لم يكن على صلة بالأخبار الأخرى التي حملها نفس اليوم.

لأنه، وقبل ساعات قليلة من ذلك الهتاف والتغني كان ارهابيون قد نسفوا في اسطنبول بنكا مملوكا لبريطانيا والقنصلية البريطانية قاتلين وجارحين مدنيين اتراكا وبريطانيين. ومع ذلك لم أجد في لندن إشارة أو لافتة واحدة تقرأ: «أسامة.. كم من الأبرياء قتلت اليوم..» أو «أيها البعثيون كفوا أيديكم عن الأمم المتحدة والصليب الأحمر في العراق» شيء من هذا القبيل.. أو أي شيء يعترف بأن المخاطر على السلام العالمي اليوم لم تأت فقط من البيت الأبيض وداوننغ ستريت.

عفوا، لأن هناك وفي المقابل أمراً لا يخلو من بلادة في الحس باستدعاء اقامة مظاهرة مناوئة للحرب في يوم أغتيل فيه مواطنوك ولكنك لا تكلف نفسك عناء الاشارة لذلك أو للذين خانوك.

مع مشاهدتي لهذا المشهد لم أستطع غير أن استغرب تجاه ما إذا كان جورج دبليو بوش قد جعل اليسار الليبرالي مجنونا، لأن ذلك اليسار لم يستطع أي شيء في العالم اليوم غير خطيئة بوش وبلير في شن حرب على العراق من دون تصديق من الأمم المتحدة أو برهان على امتلاك العراق لاسلحة دمار شامل.

وأرجو أن تصدقوني، فأنا ولكوني لبرالياً مع أو في كل شيء عدا هذه الحرب، وعلى تعاطف ضخم مع من أين أتى اليسار، وحتى وحين اتناسى ذلك فزوجتي تقوم بمهام تذكيري.

وأقول هنا أن من الأكثر سهولة على اليسار أن يشارك في اعتبار قليل لما بعد الحرب اذا ما رأى مقدار أوقية واحدة من انعكاساتها أو منظومة الندم والنقد الذاتي الآتي من المحافظين، مثل ديك تشيني ورامسفيلد اللذين قادا هذه الحرب، ومع ذلك ظلا أخرقين مع مآزقها وسيئي الأحكام مع تعقيدات عراق ما بعد الحرب. بل وما هو أكثر من ذلك، هناك فريق بوش المتحزب، والآيديولوجي، والادارة المستعصية العلاج والتي يريد ليبراليون كثر أن يسجلوا موعد انصرافها عن العمل، وهذا هو كل ما تعنيه ظاهرة هوارد دين. ولكن، هنا وفي المقابل نأتي الى لماذا يكون على اليسار أن يذهب الى ما بعد معارضته للحرب ليبدأ في طرح أفكاره الخاصة ودعمه المعنوي في محاولة منه اضفاء بعض الليمون على الليمونادة في بغداد وهناك من الأسباب ما يدعو لذلك؟

أولا: ومع أن فريق بوش قد توصل الى مثل هذا الطرح ولكن في نهاية المطاف، الا أن هذه الحرب ستبقى أكبر مشروع أميركي وليبرالي وثوري لبناء الديمقراطية منذ خطة مارشال، ذلك لأن التركيز الأساسي للقوات الاميركية في العراق اليوم هو تنصيب أو اخراج حكومة تمثل العراق على أرضية من النزاهة والشرعية والتسامح والتعددية. ولا أعرف ما اذا كنا سننجح في المهمة في ظل وقوعنا في بداية سيئة ولم تكن ضرورية، ومع ذلك فما يحدث هو في عداد أشرف الأمور التي خاض غمار محاولتها العراق ولذلك فهو التزام أخلاقي واستراتيجي يستدعي أن نعطي هذا البلد أفضل طلقاتنا.

ولذلك، وما لم نبدأ عملية الشراكة والمشاركة الطويلة مع العالم العربي بحثا عن نقطة البداية السوية، فإن هذه المنطقة المشبعة بالاحباط ستظل تتقيأ مخاطر على السلم العالمي الى الأبد. ومن هنا ستكون الأشهر الستة القادمة، التي ستحدد آفاق بناء الديمقراطية في العراق، هي الستة أشهر الأكثر أهمية في سجل سياسة أميركا الخارجية لمدى زمني طويل. وبالتالي فهي أهم كثيرا من أن تترك لفريق بوش بمفرده.

ومن هنا، ومع العراق هناك الكثير من الأعباء على اليسار فوق مجرد المناضلة لبوش، ولكن أكبر الديمقراطيين الأفضل تفهما لهذا، والاشارة للسيناتور جو بيدن، لن يخوض معركة الرئاسة، وهو يتفهم أن المعارضة الليبرالية لفريق بوش وجب لها أن تأتي من اليمين، ليطالب بأن نرسل قوات أكثر للعراق وناشطين أكثر التزاما من بين بناة الديمقراطية من أجل أداء المهمة على وجه أفضل مما قام به فريق بوش.

ثانيا: نحن نشهد من بالي الى اسطنبول شكلا من الارهاب العدمي والسام والقاسي والباحث عن قتل أي مدافع عن التحديث والتعددية مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهودا. وقد بدأ هذا الإرهاب حتى من قبل 11 سبتمبر، ويتنامى في الأركان الأكثر ظلاما داخل العالم الإسلامي، وهو المهدد الأكثر خطورة للمجتمعات المنفتحة، المتفتحة، ولذلك فمع أي 11 سبتمبر أخرى سنشهد تآكلا لحرياتنا المدنية، وبالتأكيد فالعرب والمسلمون وحدهم يستطيعون استئصال هذا الخطر، ولكنهم سيقومون بذلك فقط حين يمتلكون زمام حياتهم الخاصة ومجتمعاتهم، ومن هنا فتنشئة وتغذية ذلك هو هدفنا الحقيقي في العراق.

ويقول روبرت رايت مؤلف كتاب «اللاصفر» NONZERO: على العموم، يعرف قليلون جدا ممن عارضوا الحرب خطورة مشكلة الارهاب فيما تفهم قلة أخرى ممن ساندوها دقة هذه المشكلة.

وأخيرا ومن أجل أموالي فالمنهج الليبرالي الصحيح تجاه العراق يقضي بالقول: بوسعنا أن نؤدي المهمة بصورة أفضل. ومن هنا كان الأمر الذي كنت أكثر تعطشا لرؤيته في لندن هو: شكرا مستر بوش.. سنمضي بالمهمة من هنا.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»