إبليس تبليسي.. كمان وكمان

TT

لا أريد لرحيل شيفرنادزه أن يصبح مساجلة وقد قطع الاستاذ الراشد طريقا كهذا بعبارة شفافة هي أن الرجل جثة «ساخنة»، ولكني أيضا انسان «مثخن» ومشبع حتى الثمالة بجروح لم تلتئم ولا أراها ستفعل بسبب حرب الخليج الثانية وغزو صدام المشؤوم للكويت، والسبب أيضا قراءات في هذا الشأن أزعم أنها لم تتحها الظروف لكثيرين وقد أتاحها لي عملي بجريدة «الأنباء» الكويتية من القاهرة واهتمام قيادة الجريدة التي جاءت للقاهرة بعد الغزو بمعرفة ما لهم وما عليهم في الصحافة الغربية.

صدام مغفل نعم، ولكن المؤامرة باقية، وأود لو فرغني الأستاذ الراشد لشهر لنفتح هذا الملف بالوثائق بدءا من نص لقاء ابريل جلسبي بالطاغية وهو الذي مهد للغزو، ونهاية بما فعله إبليس تبليسي بركوب المركب الاميركي والدولة العظمى الثانية لم تكن قد انهارت بعد. أي أن موقفا مسبقا لو حسنت نواياها كان من الممكن أن ينصح حليفا بألا يفعل تلك الفعلة. ولا تقل لي إن إبليس تبليسي لم يكن ذا تأثير في هذا الشأن، وأقرأوا مقالة جيم هوغلاند على هذه الصفحة.

وللعلم فقد حقق الكونغرس في ما نقلته ابريل جلسبي الى صدام (وبينه عبارتها بأن لديها توجيهاً صريحاً من الرئيس بوش باقامة علاقات حسنة معه. وحين سألها المغفل صدام وفق النص الذي سربه هو بنفسه لـ«الواشنطن بوست» عن رأيها في توتر علاقته بالكويت، قالت له: لدينا مواقف من العلاقات العربية ـ الاسرائيلية وليست لنا مواقف محددة من العلاقات العربية ـ العربية)، وللعلم فالكونغرس لم يجد في الخارجية الاميركية رسالة واحدة من رئيسها جيمس بيكر يفوضها فيها بأن تنقل لصدام على لسان بوش ما قالته للطاغية، بل إن هذه الجلسبي وحين استجوبها الكونغرس قالت بالحرف ولا داعي لسرد النص بالانجليزية: «لا أظن أنني أو كل الذين ينتقدونني قد فكروا للحظة أن صدام سيأخذ «كل» «الكويت». ويومها تصدى لها صحافي أظنه انتوني لويس وقال: إن بيت القصيد هنا هو عبارة «كل» لأن هذا يعني أن جلسبي كانت على علم بأن صدام سيأخذ «بعض الكويت» والمسألة وحتى في هذه الحالة مرفوضة. المسألة الثانية والأكثر خطورة والتي لا تذكرها ذاكرة الشعب العربي هي زلة لسان شوارتسكوف التي قال فيها للصحافة إنه قد تلقى تعليمات من بوش بأن يترك منافذ الهروب للحرس الجمهوري العراقي مفتوحة، وكان ذلك بعد التحرير مباشرة ومنها اتجه الحرس الجمهوري المدحور والعائد من الكويت، وكما هو معلوم لإخماد أو قل سحل انتفاضة الجنوب. وأظن أن ضحاياها قد تجاوزوا العشرة آلاف شخص. ولكن بوش وأمام هول هذا التصريح وتداعياته استعمل عصاه فاضطر شوارتسكوف أن «يلحس» تصريحه ويقول «يبدو أنني قد أسأت فهم مفردات توجيه الرئيس». كذا وبمنتهى البساطة أخرج نفسه من الورطة.

واذا كانت مواقف مثل هذه قد فاتت على الاعلام العربي بذاكرته القصيرة فانها لم تفت على الاعلام الاميركي الشجاع والأمين كثيرا، فخرجت «الـواشنطن بوست» برأي قبيل الانتخابات الاميركية يقرأ: ليس لدى بوش ما يقوله، لتجاريها مجلة «تايم» أو «نيوزويك» (لا أذكر) وقبل الانتخابات أيضا بموضوع غلاف شهير يقرأ: «النصر الأجوف»

The Hollow Victory، ومغزاه أن الرئيس بوش من حكاية ابريل جلسبي والى تصريح شوارتسكوف قد صنع حربا لينتصر فيها وهذا مناف للقيم الأميركية وبالحرف قالوها أخي الراشد: This is against the American Values. فما أعظم هؤلاء القوم في تآمرهم وفي صدقهم أيضا، وها هم قد اسقطوا ولأول مرة رئيسا قالوا له أن نصرك هذا أجوف (أي متآمر)، ويومها ونحن نغطي الانتخابات الاميركية في جريدة «المدينة» السعودية قلت لرئيس تحريرها بالانابة صديقي عبد الله العمري مقلدا أهلنا المصريين وقبل ظهور النتائج «تتقطع دراعي إن كان البوش دا حيفوز».

وفي هذا الخضم يمكن أن نعتبر ابليس تبليسي شيفرنادزه مغفلا أو مستغفلا من الأميركيين مثل صدام ومثل غورباتشوف، ولكن مجادلتي قائمة لجهة تآمر من ابليس تبليسي كان من الممكن جدا وفي غيابه ألا يدفع كل العالم العربي الأثمان التي يدفعها الى اليوم، لأنني أقرأ الحدث على نحو مغاير يفترض أن بقاء صدام من غير غزو الكويت وأيا كان سوءه يقل في خسائره على الأمة العربية عنه وهو متورط بغزو الكويت اذا لم أقل أن صدام نفسه ربما ستكشف السنين القادمة تآمره علينا، وهناك توقيت غزوه الذي جاء بعد ثلاثة أشهر فقط من عودة الجامعة العربية الى مقرها في القاهرة وبزوغ فجر للتضامن العربي يتأهب فيه لتجاوز مرارات «كامب ديفيد» التي قسم فيها صدام بقمة بغداد العالم العربي مثلما قسمه بغزو الكويت.

منطقي أن بقاء صدام بطغيانه لسنوات بقي فيها أصلا ضعيفا ولكن من دون غزو الكويت، كان من الممكن لنا أن نشهد فيه عالما عربيا آخر بسياقات أخرى غير هذه التي اعتصرت فيها واشنطن جيوب الدول العربية بوجود بعبع هزيل هو صدام لا حول له ولا قوة. وللتذكير ادير الانتباه الى ثلاث صفقات سلاح اميركية لثلاث دول بلغت 21 مليار دولار لم يعترض عليها اللوبي اليهودي في اميركا مثلما فعل في الثمانينات مع صفقة الإيواكس للسعودية وقد اجيزت كلها بمؤامرة دفع صدام لغزو الكويت ومؤامرة ابقائه ضعيفا في مكان اسقاطه بصيغة بوش لشوارتسكوف، وقد سولت نفس بوش لبوش أمرا بنا فأنصفتنا السماء باسقاطه.

أنا هنا لا أريد أن أنكفئ على المؤامرة ولا على غفلة صدام وغبائه، وقد نشرت في هذه الصحيفة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) مقالا بعنوان «السيناريو الكابوس: ماذا لو لجأ بن لادن الى كشمير»، وقد هاتفني بعدها سفير السودان الدكتور حسن عابدين ليقول لي إنه شعر بفخر في مناسبة جمعت لفيفا من السفراء وكان المقال بفكرته موضوعا لنقاش طويل، وفكرة المقال وكما أوردتها في داخله مستوحاة من غلاف لـ«نيوزويك» أيضا حمل اسم السيناريو الكابوس NIGHTMARE SCENARIO وفحواه فكرة قذف بها دبلوماسي غربي لم يسم نفسه لـ«نيوزويك» مفادها سؤال يقول: ماذا ستفعل كل هذه الحشود العسكرية ومن أين ستعوض كل هذه الدول نفقاتها اذا استيقظت صباحا على موقف من صدام يقول لهم فيه: عفواً تفضلوا وانصرفوا فهذه هي الكويت «الاشارة لانسحاب مفاجئ منه». والغريب أن المجلة حملت الفكرة لما يعرف بـ«مركز عقول القادة» بالمخابرات الأميركية للتدقيق في امكانية حدوث هذا السيناريو، فتكفل لهم ناشط هناك من دون اشارة لاسمه بعبارة من بضع كلمات تقول: لا.. ليس صدام الذي يفعل ذلك.

في هذا الاتجاه تلقيت رسالة من الدكتور عبد الحميد الأنصاري أختار منها قوله:.. ولكن السؤال الذي يظل قلقا هو: وهل لو اختلف سلوك شيفرنادزه مع صدام لكانت النتيجة مغايرة؟ في تصوري وعلى ضوء دراسة شخصية صدام لا. واكتفي بهذا القدر من الرسالة. المؤامرة أخي الراشد موجودة، والغباء بين ظهرانينا موجود، فما العمل؟